(حوار أجرته الشاعرة
الكوردية مريم تمر)
نص الحوار:
ـ س: حدثينا
بداية عن مليكة مزان المرأة الأمازيغية/الثورة، من أي حديد صيرت كينونتها، ومن أي
ياسمين قلبها منذ
نعومة
روحها، وإلى اليوم، وبإسهاب؟
ـ ج: لا أحب أن أتحدث عن نفسي، لذا، وإجابة على
هذا السؤال، سأكتفي بالقول أنه يكفي لأي امرأة أن تولد في مجتمع عربوفوني إسلامي
طاغ ومتعفن لتصير هي عينها مليكة مزان بكل ما يعرف عنها من قوة وجبروت، أو من رقة
وضعف، وربما أقوى من مليكة مزان بكثير، وربما أرق...
ـ س: ديوانك (أنا وباقي الملا عين) صعقات
كهربائية، أي نقمة جعلتك تسطرين هذه الصعقات؟ وما الذي تريدين إيقاظه؟ ومما؟
ـ ج: وقاحة الواقع في تدبير شؤوني (سواء كامرأة
أو كوطن أو كشعب) تدبيرا لاعقلانيا هي ما جعلتني أفكر في توجيه هذه الصعقات
الكهربائية، صعقات أعتبرها أقوى أشكال محاربتي لذاك النزوع المرضي لفهم العالم
وتسييره طبقا لتصورات همجية لم يعد يقبل بها أي عقل سليم يحترم نفسه.
ـ س: "لا أستعين بمكر صنم أو خبث
نبي"،
أنت
وهذه الفلسفة الوجودية التي تطرحينها بجرأة، وتغتالين كل الحقائق الموجودة في الشرق، من
أين استمددت هذه القوة والثقة؟
ـ ج: من تسلحي بالتفكير العقلاني الذي يخضع كل
عقيدة (دينية أو فكرية أو سياسية) تسيء للإنسان (سواء كان فردا أو شعبا) للشجاع
الجريء من النقد والمساءلة.
ـ س: هذه الأصنام التي لابد منها في الحياة، من
تقصدين بها ؟وما المراد من مخاطبتها؟
ـ ج: أصنام الدين والجنس والسياسة لم يعد يصلح
وجودها في حياتنا إلا لتحطيمها، فعلى هكذا أصنام أن تدرك الآن (وأكثر من أي وقت
مضى) أن زمنها قد ولى، وأن الإنسان المعاصر، انسجاما مع ذكائه المتنامي، لم يعد
يسمح لنفسه بالركوع للمتواجد منها ولا بصنع المزيد منها.
ـ س: في قصيدة عن "الرباط" تعرين هذه
المدينة بقسوة، أي حقد قاسٍ في قلبك اتجاه هذه المدينة؟
ـ ج: في الواقع كتبت القصيدة، أول ما كتبتها،
لأصب غضبي على مدينة "ليون" الفرنسية التي لم تكن بالنسبة لي، أيام
إقامتي فيها كزوجة دبلوماسي مغربي، غير إحدى مدن فرنسا ذات الماضي الأسود في كل ما
عانى منه الأمازيغ بشمال إفريقيا منذ عصر الرومان حتى اللحظة الراهنة مرورا بفترة
الاستعمار وعهد الحماية. ثم ارتأيت أن أنقل خطابي الموجه فيها لمدينة
"ليون" إلى مدينة "الرباط" العلوية، على اعتبار أن المدينتين
في تعاملهما مع القضية العادلة لشعبنا الأمازيغي وجهان لعملة واحدة.
ـ س: القحبة، العاهرة، عورات الآلهة، صنم،
شياطين، إلحاد، دين، الصلاة، الكفر، وأنت تكثرين من استعمال هذه الكلمات وتسقطينها
على نفسك (عهري، كفري)، هل تعاندين اللغة بالمحظور لتفرغي جعبتها من كل خوف؟
ـ ج: الأوجه المتعددة لفساد الواقع لم يكن لها
إلا أن تفرض علي قاموسا لغويا دون غيره، بهذا القاموس وحده استطعت أن أواجه الواقع
دون خوف، كيف أخافه وذاك القاموس منه وإليه؟ إنه من الذكاء أن نواجه العدو بنفس
أسلحته، وقد يكون الأمر أفضل لو نحن واجهناه بأسلحة أكثر تطورا، وأعتقد أن ذلك هو
ما نجحت فيه.
ـ س: "من سوء حظ الآلهة أنها لم تتنبأ
بمثلي، دعوني إذاً أغفر لها ما تقدم من ذنبها وما تأخر"، هنا تحاورين الآلهة
بطريقة محترفة، وتعلنين الثورة على كل الأرباب، هل لك أن تحدثينا عنك وعن الآلهة
التي يجب أن تغفري لها ذنوبها؟
ـ ج: منذ أن اكتشف الإنسان نفسه بأنه كائن
ميتافيزيقي وهو يتفنن في اختراع الآلهة، هذه الآلهة أساءت للإنسان أكثر مما
أفادته. شخصيا كي أغفر لتلك الآلهة جرائمها لا بد لي أولا من إحالتها على التقاعد.
أجل، لا بد لكل آلهة طاغية مريضة من أن تتقاعد
هي وكل الذين اخترعوها أو آمنوا بها، خاصة بعد أن تفاقمت تبعات تسلطها اللاعقلاني
علينا وثبت فشلها في تسيير شؤوننا وعلى مدى قرون عديدة.
ـ س: "كافرةً تشتهيني فواكه الجنة، فلتمض
الشياطين بي نحو سجود الملائكة"، هذا النداء الداخلي برفض التعاليم وكسر قيود
الأديان، الأنثى في داخلك
ماذا
تجرعت من كل ذلك؟
ـ ج: تجرعتُ من كل ذلك ما يكفي ليكون مشروعي
الوحيد هو الثورة على كل ما يقال عنه أنه "أخلاق لا بد منها" لتحقيق
سعادتنا وخلاصنا سواء كأفراد أو كمجتمع.
ـ س: "كلما شدني الجوع إلى فواكه أيما جسد
على غباء أنثاي أبزق"، هل توجعت مليكة/ الثورة من بلاهة الرجل، وهل هناك
معاناة كبيرة، حدثينا عنك وعنه...
ـ ج: ما بين المرأة والرجل سنوات ضوئية من سوء
الفهم، وقد حاولت أن أزيد من بُعد تلك المسافات بتسليط مزيد من الضوء عليها، لعل
هول تلك المسافات يشكل صدمة للرجل فيحاول إصلاح ما أفسده من أجواء وشروط العيش
السعيد المشترك.
ـ س: كلماتك الثائرة تكسر كل الأصنام وتحترف
الإلحاد، وترمي بالشرق إلى حاوية القمامة، انقلاب ضد الذكورة والطغاة، أي امرأة
أنت؟
ـ ج: امرأة قد تكون (وهي تحطم كل الأصنام) أي
شيء إلا أن تكون ملحدة.
فأنا (كمناضلة أمازيغية علمانية شرسة) لا أقبل اتهامي من طرف أعدائي بالإلحاد إلا في
حالة واحدة:
حين يكون المقصود بالإلحاد هو ذاك الكفر الحلال
بكل ما هو فاسد وقبيح وظالم. في تلك الحالة فقط أعتز بأني أكبر الملحدات الثائرات
على قيم الشرق ومنطق الذكورة.
ـ س: "أضاجع الشياطين كلها وأسعد الرب"... أين هي العقدة هنا؟ هل
من شرح لها؟
ـ ج: أحس بأن الله في الثقافة العربية
الإسلامية رب تعس، سبب تعاسته هو ذاك التصور الهمجي الذي تقدمه هذه الثقافة عنه،
وأن عليﱠ (كحفيدة
لابن رشد الفيلسوف الأمازيغي العقلاني الشهير) أن أعمل على إسعاد الله، وإسعاده لن
يتم في نظري سوى بالانتقام له، وأما الانتقام له فلن يكون سوى بالانتصار لخطاب
العقل، خاصة وأنه الخطاب الذي ما يزال أعداء الله والإنسان يصرون على محاربته وبكل
ما أوتوا من قدرة على الهمجية والظلم.
شخصياً، إذا كان خطاب العقل، في نظر هؤلاء، هو
خطاب الشيطان ليس إلا، فأنا أفضل أن أضاجع، في كل تحليلاتي وكل انتقاداتي وكل
أحكامي، أيما شيطان عقلاني على أن أضاجع صاحب أي عقل أصفر، أو حزام ناسف، أو سيارة
مفخخة.
ـ س: أنت التي عملت أستاذة للتربية الإسلامية
لمدة عشر سنوات، هل بإمكاننا القول أنك احترفت الإلحاد بعد أن أعلنت عهرك الجميل
وهويتك الشعرية، ولبست الثورة، حدثينا عن هذا التناقض؟
ـ ج: ليس هناك أي تناقض أو تحول في مساري، فما
يراه البعض في كتاباتي أو مواقفي أو تصريحاتي على أنه انتقال إلى إعلان الإلحاد
والعهر كان وما يزال في نظري استمرارا لما كنت عليه من تعقل وإيمان وطهر.
وإن كان لا بد من الحديث هنا عن أيما تناقض
فإنه لن يكون سوى تناقض مادة التربية الإسلامية نفسها التي كنت أدرسها انطلاقا من
المناهج التربوية المقررة، ذاك التناقض الصارخ بين ما تعلنه وتدعيه وبين ما تخطط
له ولا تكشف عنه.
فقد كانت تلك المناهج تروج بين التلاميذ لكثير
من العنف والقبح والظلم، وكل ما كنت أفعله في تدريسي لها هو منعها من أيما نجاح في
أداء مهمتها تلك.
ـ س: روايتك "إلى ضمة من عطركِ"،
ماذا عنها، ترجمتها إلى اللغة الكردية ماذا أضاف إلى قلبك؟
ـ ج: أتمنى أن تكون الترجمة قد تمت بما ينبغي
من أمانة ودقة، في هذه الحالة فقط سأكون سعيدة جدا لأن هكذا ترجمة للرواية إلى لغة
الشعب الكوردي العزيز ستعمل على مد جسور أخرى بيني وبين هذا الشعب كروائية بعد أن
كانت جسور سابقة قد امتدت بني وبينه كناشطة حقوقية وكشاعرة.
ـ س: علاقتك الخاصة والمميزة مع الأكراد وصرختك
مطالبةً بحقهم،
ماذا
عنا وعنك؟
ـ ج: أؤمن بأنه إذا كان هناك من شعب على الضمير
العالمي أن يقف إلى جانبه حتى تتحقق كل مطالبه فهو الشعب الكوردي.
شخصياً حاولت أن أرضي ضميري إزاء هذا الشعب،
غير أن البعض استغرب تعاطفي معه، وليس لي (هنا أو حيثما كنت) سوى أن أستغرب من
استغرابهم اللاأخلاقي ذاك أشد استغراب.
ـ س: حياتك الزوجية وطلاقك، ماذا أخذا منك،
وماذا أعطياك؟
ـ ج: حياتي الزوجية منحتني كثيرا من العبودية
والمهانة من جهة، وأكثر من سبب ملح للكتابة المتمردة من جهة أخرى، وأما طلاقي فقد
حررني حرية أشتهيها لكل عبيد العالم.
أجل، فكما تم طلاقي من رجل عربي عنصري أتمنى أن
يتم أيما طلاق ما بين الشعوب الأصلية والاستعمار العربي في كل من الشرق الأوسط
وشمال إفريقيا، بل وأن يتم ما بين كل الشعوب الإسلامية وبين كل التجليات الهمجية
للثقافة العربية.
ـ س: وأيضاً المفكر الأمازيغي أحمد عصيد،
حدثينا عنه...
ـ ج: أحمد عصيد تجربة مؤلمة ورائعة في نفس
الوقت، تجربة نضالية وعاطفية عشتها بشتى فنوني وبكل جنوني، والسبب أن أحمد عصيد
ذاته كان تلميذا كلما تعلق الأمر باستظهار دروس في الحب والنضال والوطنية تفوق على
الجميع، لكنه في مادة التطبيق أثبت لي وللجميع أنه أكثر التلاميذ فشلا وغباء
وخسارات. وأنا من عادتي أن أحاسب كل الذين يناضلون من أجل هدف واحد:
إهانة كل مَن/ما يناضلون لأجلهم.
بل من عادتي أيضا أن أقاطع الذين يعشقون لهدف
واحد:
خسارة كل مَن/ما يعشقون.
ـ س: بعد ستة دواوين شعرية، أنت والقصيدة، ماذا
تقولان لنا اليوم؟
ـ ج: سأقول بأني تعبت، تعبت من غياب العقل، من
غياب الحب، من غياب الذوق. ولأني تعبت من كل هذه الغيابات الفظيعة القاتلة فقد
أصاب القصيدة (قصيدتي على الأقل) صمت مفاجئ أتمنى ألا تكون له الكلمة الأخيرة.
ـ س: إطلاقك لمصطلح "جهاد النكاح
المضاد"، وحلولك في برنامج "في قفص الاتهام" لصاحبه "رضوان الرمضاني"، ماذا عن هذه الفكرة، وما الذي كان وراء ذلك؟
ـ ج: من المؤسف أن ذاك البرنامج لم يلتف من قبل
إليﱠ كمناضلة لم تكن لتكف
عن رفع صوتها مطالبة بحق شعبنا الأمازيغي في الحرية والكرامة، وأنه انتظر فقط تلك
الضجة التي أثارها إطلاقي لما سميته بـ "جهاد النكاح المضاد" تضامنا
رمزيا مني مع الشعب الكوردي، لهذا حرصت على انتهاز فرصة الحلقة التي كنت ضيفتها كي
أمرر وجهات نظري حول قضايا الساعة المسكوت عنها في الإعلام العربي الرسمي العنصري.
وقد حققت تلك الحلقة نجاحا كبيرا لم أكن أحلم به.
ـ س: التنقل بين فرنسا والمغرب وسويسرا، ماذا
أضاف المكان لتجربتك الإبداعية؟
ـ ج: بل أتساءل عما كنت سأكتبه من نصوص لو كان
السفر قد امتد بي إلى اليابان مثلا أو أمريكا أو حتى إلى خارج كوكب الأرض، ذاك أن
للمكان سلطته على المبدع وفعله العميق في حواسه وعواطفه وفكره.
شخصيا أضافت الأماكن التي أقمت فيها الشيء
الكثير لتجربتي الإبداعية، ذاك أنها وبالضرورة ليست مكانا محضا بل مكانا زمنيا
أيضا على اعتبار أن الزمن هوية المكان التي تكشف عن درجة توغله في المستقبل
ومسافته منه، تلك المسافة التي تقاس بإنجازات المكان الروحية والمادية، وجلها
إنجازات عقلانية أذهلتني، بل وجعلتني أقيم كثيرا من المقارنات الصعبة المؤلمة،
وأنت، كشاعرة كوردية جميلة، تعلمين كم هو كبير أثر الألم على كل تجربة
إبداعية.
ـ س: مليكة مزان الأمازيغية أصلاً (الكردية
مجازاً)، وأنت تطلقين كل هذه الثورات، أنت والحياة، إلى أين وصلتما؟
ـ ج: إلى هدنة هشة
كثيراً ما يتم خرقها سواء من طرفي أو من طرفها، وكأن الصراع والشقاء هما الأصل، لا
السلام والطمأنينة.