الأربعاء، مارس 26، 2008

مليكة مزان : أولى الناس بتعاطفي أهلي الأمازيغ

(أجرى الحوار الإعلامي المغربي "عبد العالي بركات" لصالح جريدة "بيان اليوم")

نص الحوار:

ـ س: الأستاذة مليكة، ما هو المنبر الإعلامي الذي نشرت فيه لأول مرة؟

ـ ج: لم أعد أذكر بالضبط أول منبر نشر لي، قد يكون مجلة "ضفاف" أولا، ثم بعض الجرائد الجهوية بمدينة بني ملال، ثم جريدة "العلم" بعد أن أرسلت إليها ببعض قصائدي بتدخل من أحد أصدقاء الدراسة الذي كان منخرطا في حزب الاستقلال  والذي ختمها بطابع فرع الحزب بالمدينة حتى يضمن نشرها لأفاجأ في ما بعد بجريدة للشبيبة الاستقلالية، ربما هي جريدة "الاختيار" (لا أذكر بالضبط اسمها) تنشر إحدى قصائدي من غير إذني، وهو أمر لم يكن ليغضبني على اعتبار أنه كان وقتها خدمة مجانية لكاتبة مبتدئة مثلي كان من الصعب عليها أن تجد لها مكانا في الملحقات الثقافية لجرائد أحزاب لم أكن منخرطة في أي منها، إن كان لابد لأي مثقف أن ينخرط في حزب ما أو تابعا له حتى يحظى بما ينبغي من ترحيب وتشجيع.

ثم تلت هذه المنابر منابر أخرى كجريدة "المعركة" لسان حزب الحركة الشعبية، فجريدة "التجديد" لسان حزب العدالة والتنمية، فجريدة "النهار المغربية" وبعض المجلات الأدبية.

ما لا أغفره لنفسي الآن هو أني، في بداية تجربتي الشعرية، كنت أبحث عن أي منبر للنشر، ولم أكن لأنتبه إلى حقيقة مفادها أن ثمة قناعات إيديولوجية وسياسية توجه دائما هذا المنبر أو ذاك، على اعتبار أنه لسان حزب من الأحزاب أو جهة من الجهات، وذلك بسبب غياب كل وعي سياسي يذكرني وقتها بمن أكون، ويساعدني على الوفاء لانتمائي الأمازيغي وقضايا شعبي.

كان كل هاجسي هو الرغبة في إثبات ذاتي الفردية كمواطنة أمازيغية أقصى درجات الوعي التي كانت لديها لم تكن لتتجاوز "وعيها" بأنها "واحدة" من نساء "الأمة العربية" و"الوطن العربي".

هو سلوك يكشف الآن أني كنت على جهل فظيع بكثير من الحقائق التاريخية وبالسيرة الذاتية لكل حزب متواجد في الساحة السياسية المغربية يصدر هذه الجريدة أو تلك، سيرة لم تخل من مواقف له غير مشرفة إزاء قضية وطنية قومية ومصيرية أؤمن بعدالتها أشد ما يكون الإيمان هي القضية الأمازيغية.

نعم كنت على جهل فظيع بكثير من الحقائق التاريخية التي هي في غاية الأهمية والتي أجدني الآن، وفاء لانتمائي الأمازيغي وغيرة عليه، آخذها بعين الاعتبار.

هذا الموقف الواعي الجديد هو ما صار يحدد سلوكي الحالي، ويملي علي كل اختياراتي، ويوجه تعاملاتي مع هذا الحزب أو ذاك، أو مع هذه الجريدة أو تلك.

هو جهل أتحمل الآن مسؤوليته وتبعاته، كما أحمل قدرا من هذه المسؤولية للنخبة الأمازيغية المثقفة التي لم تكن لتتواصل، وبالقدر اللازم ، مع مختلف فئات الشعب المغربي في المدن والقرى بهدف توعيته وفضح أعدائه، وإن كان لها بدورها أعذارها التاريخية التي لم يكن من السهل تجاوزها دون تضحيات جسيمة من طرفها.

أو قد أقول، رحمة بي من لسعات الضمير، أني كنت فقط، في تلك المرحلة، ذات اهتمامات إنسانية تتجاوز انتمائي العرقي والثقافي، ولكني حتى في هذه الحالة أجدني مخطئة بل وظالمة على اعتبار أن من كان أولى الناس بتعاطفي ونضالي هم أهلي الأمازيغ، وأنه كان علي، تبعا لذلك، أن أتجنب التعامل مع أعداء حقوقهم ومصالحهم من العرب والأمازيغ على حد سواء.

أجل لقد فرطت، بتعاملي سابقا مع بعض منابر النشر وخاصة جريدة "العلم" لسان حزب الاستقلال، في كثير من محبتي لأرضي وغيرتي على انتمائي واختلافي الثقافتي.

وقد يعترض علي بعض الأمازيغ الآن ليقولوا بأني ما زلت أخون هذه الأرض ما دمت أكتب وأنشر باللغة العربية وفي كثير من المنابر العربية، وهنا أرد عليهم بأن ثمة فرقا بين ماضي سلوكي وحاضره:

إن تعاملي الآن مع هذه المنابر ليس تعاطفا معها في قناعاتها واختياراتها، وإنما هو اختراق لها من أجل دعاية مشروعة وحضارية فيها لقضيتنا العادلة. فليطمئن هؤلاء الإخوة: ليس مثلي من يتعمد أن يخون الوطن ودم الشهداء.

ـ س: ما هو الحافز الذي دفعك إلى النشر؟

ـ ج: قد تقصد، بالحافز هذا، تعدد منابر النشر الورقي واستقلالية كثير منها، مع نسبة الحرية التي صارت تتمتع بها الصحافة في مغرب "العهد الجديد". كما قد تقصد به إمكانية النشر الرقمي الذي صار مجالا سريعا وشاسعا للتواصل مع القراء في كل أنحاء العالم، وفي انفلات شبه تام من مقص الرقابة، بل وفي استغناء جميل ومريح عن تحمل تكاليف الطباعة والنشر والتودد لأصحاب الملاحق الثقافية بالجرائد الحزبية وغير الحزبية.

وكجواب على هذا السؤال أقول بأني شرعت في النشر قبل أن تتاح كل هذه الحوافز والإمكانيات، إمكانيات تبقى مكسبا مهما للإنسانية بعد كفاحها المرير من أجل حرية الرأي والتعبير، كما أنها إمكانيات محفزة جدا لكل مثقف يرغب في القيام بواجبه دون أن يجد لتخاذله أو لتماطله ما كان يجده قبلها من أعذار.

لكن يبقى الحافز الحقيقي للنشر هو نفس الحافز الذي يدفع للكتابة، بل للتفكير في القيام بأي إنجاز آخر جميل ومفيد ومهما كان مكلفا. وليس هذا الحافز بالنسبة لي غير عشقي الصادق لكل شبر من أرضنا الأمازيغية، ذاك العشق المقترن بالغيرة الشديدة عليها وعلى إنسانها المتسامح الوديع.

هذا الإنسان الذي أعطاها أكثر مما أخذ. هذا الإنسان الذي لن يرقى أي كان إلى ما هو عليه من هيام بها واستماتة حقيقية من أجل كرامتها وعزتها. هذا الإنسان الذي يستحق من مثقفينا وفاءهم ونضالهم، وفاء لن يتم إلا بالتزامهم الكتابةَ الشجاعةَ عن همومه وطموحاته، والوقوف إلى جانبه حتى ينال كامل حقوقه.

ـ س: كيف كان شعورك وأنت تطلعين على كتاباتك تنشر مذيلة بتوقيعك وتحمل بصمتك الأمازيغية؟

ـ ج: كان شعورا بالاعتزاز المصحوب بتنفس الصعداء خاصة حين كنت ألاحظ، وأتحدث هنا بشكل خاص عن تجربتي مع النشر الرقمي، أن توقيع نصوصي بانتمائي الأمازيغي لم يحذفه المشرفون على بعض المواقع العربية التي أنشر بها، وهو تحد رائع وإنجاز جميل بالنسبة لي.

هو إنجاز صغير بل وتافه بالمقارنة مع بعض ما حققه المناضلون الأمازيغ الكبار لصالح الشعب والثقافة الأمازيغيين حتى الآن، ولكني، وبالنظر إلى الحصار المضروب على الهوية الأمازيغية للشعب والأرض المغربيين، أو بالنظر فقط إلى درجة الحساسية التي تعامل بها هذه الهوية، أعتبره إنجازا حقيقيا لسببين:

ـ أولا لأنه كان يقدمني إلى القارئ العربي، ولكل ناطق بالعربية، كشاعرة/سفيرة لأهلها الأمازيغ، شاعرة سفيرة تسخر إتقانها الكتابة الشعرية باللغة العربية للدفاع، لدى كل من يهمهم الأمر أو يزعجهم، عن الهوية الأمازيغية للأرض المغربية وللشعب المغربي ولكل شمال إفريقيا، مع رفضها القوي والكامل لأي شكل من أشكال إقصاء شعبها، أو أية درجة من درجات التواطؤ من أجل مزيد من إبادته.

كما تبلغ المتلقي العربي بالذات، ودائما بلغته التي يفهمها، أن هذا الشعب كان هنا ولن يبرح الـ "هنا"، وأن على كل من لا يرتاح لهذه الحقيقة أو يأبى التسليم بهأ أن "يشرب البحر" حتى ولو كان من بعض أقاربي العرب، لأننا تعبنا من استجداء حقوقنا من غيرنا وعلى أرضنا، بينما حقوق غيرنا مصونة لهم عندنا، بل وأشهى خيرات أرضنا في بطونهم، في حين ليس في بطون فقرائنا غير الحسرة على كل شبر منها فرط فيه الأولون.

ـ ثانيا لأنه نجح في إثارة الانتباه في هذه المواقع وعبر كل أقطار العالم التي تفهم اللغة العربية، إلى أن هناك شعبا أمازيغيا له، ككل شعوب العالم، مفكروه ومبدعوه الذين يرفضون أن يحسبوا على قوميات وثقافات أخرى، كما له ممثلوه وسفراؤه المنتشرون في كل مكان والحاملون لهمومه ورسالاته والمدافعون عن أحلامه وطموحاته.

ـ س: كيف كانت ارتسامات المحيطين بك؟

ـ ج: محيطي الأسري والعائلي محيط يغيب عنه كل اهتمام بالثقافة والكتابة والنشر وبالنضال: كلما نشرت ديوانا لي وعلى حسابي الخاص، أو تشبثتُ بحقي في الكتابة والنضال الميداني، أو رأيت أن واجبي الوطني والقومي يحتم علي الاستجابة له ولنداء ضميري إلا وطُرحت عليَّ أسئلة ثقيلة ومزعجة حول المردودية المادية لما أكتب ولما أقوم به، وكأن الغاية من كل نضال وكل كتابة هو الربح المادي الوفير. أعرف أنه محيط مستلَب وقاس، ولكني ألتمس له كل الأعذار لأنه ليس سوى ضحية للمنطق المغربي العام الذي له أولوياته وتقييمه الخاص للأشياء.

أما ارتسامات الذين تربطني بهم علاقة زمالة أو صداقة فقد كان منهم المشجع والناصح، كما كان منهم أيضا المجامل المنافق، بل والمنافس الحسود، بل والخائن الذي، بدل كل دعم مشجع حقيقي كنت أنتظره منه لمواصلة الكتابة والنشر أو لتحقيق تواصل أوسع مع الجماهير الأمازيغية التي نذرت كتاباتي للدفاع عنها، لم يخجل من تسديد ضربات الغدر بي وفي صميم إيماني بضرورة التضامن الأمازيغي على كل الأصعدة، تضامن صرت بعدها أؤمن بأنه سيغيب طويلا قبل أن نستفيق ـ ذات عيد قد لا يأتي ـ لنرى الشعب الأمازيغي موحد الصف، وكامل حقوقه وقد تحولت إلى واقع يومي.