الأربعاء، مارس 26، 2008

فوزي الديماسي : مليكة مزان و’’ جنيف .. التيه الآخر ’’

’’ جنيف التيه الآخر ’’ ديوان للشاعرة الأمازيغية مليكة مزان يحكي الرحيل و يحاكيه ، قدر الذات / الشاعرة فيه على سفر تقيم ، و على سفر ترحل ، كأن بساط الرحيل تحتها ، مطيتها في رحلة البحث عن الوطن وطن منشود يقبع في بؤبؤ العين ، وطن صنو نطفة مشتهاة يجلس في صلب الغيب المتكتّم على أسراره ، تلك هي مأساة القول و قول المأساة المتوالدة من قصيد إلى آخر ، و من بيت إلى بيت .

’’ جنيف … التيه الآخر ’’ رحلة بحث عن الشطآن الرافلة في البين ، حيث كل المرافئ التحفت الغياب و النأي اليباب ، و الذات / الشاعرة كائن تائه بلا وطن ، بلا عنوان ، يناشد القرار و ينشده على حافة برد اليقين و جليد الضياع ، ذات مختزلة في كلمتين و الذات / الشاعرة تراوح مكانها بينهما في صمت مغلف بالألم و الأمل ، كلمتان تلخصان تجربة برمتها ، كلمة معلنة ’’ التيه … الآخر ’’ ، و أخرى مضمرة راكدة في قيعان الطوية و بين السطور .

تيه على تيه ، ومثلها يتيه ، وجهان لعملة واحدة : الأنا التيه / الهنا - الأنا التيه / الهناك ، تيهان يراوحان مكانيهما بين ضفّتي ضياع . فالتيه في الديوان تيهان ، تربط بينهما على تباينهما جغرافيا ذات قائمة على الأشجان المنبثقة من لوح الهجرات و الشرفات الغريبة والمغتربة و الدرب العليل :

آه لو أعود
فكم على شرفات الغربة
أنكرتني ذاتي


فللوطن ذات ، و للذات وطن إليه ترنو من كوة الغربة الموغلة في الوحشة ، ووطن الذات / الشاعرة في هذا الديوان لغة يتيمة مغتربة وحلم قديم … قديم ، في القلب مقيم ، ترعاه عيون متورمة سفراً أرهقها الترحال ، و أضناها التسآل والوقوف بدرب درب دون العثور على مستقر ، و حال الذات / الشاعرة في ذلك كحال عالم بلا خرائط سمته الفوضى والضباب وطبعه الغربة وسمته الرحيل.

الجنوب ينادي
لكن الثلج جميل ،
الجنوب ينادي

لكن .. القلب حيرة كبرى
الجنوب ينادي
لكن العودة
دربها مليء
بكل الأسئلة الصعبة

اللازمة ’’ الجنوب ينادي ’’ تكشف عن حيرة عاصفة بكل اطمئنان ، وتعري عن الصراع وجهه المتقلب والمضطرب ، فالمدّ والجزر يسم الديوان بسمة الضياع ، ويلفّ العلاقة الرابضة بين الذات / الشاعرة و جنوبها بصفة الاضطراب ، فشيء مّا يشدها للجليد ، و شيء آخر أعتى و أقوى يدعوها إلى الجنوب حيث التربة البداية ، و بين الشدّ والدفع تقف الذات / الشاعرة كزنبقة في مهبّ ريح عاتية لا يكاد يقرّ لها قرار ، شأنها شأن لوح هزيل على متن بحر غضوب لعوب يزاوج بين وطنين : وطن الغربة وغربة الوطن .

ثم إن أداة الاستدراك - لكن - تقوم على طول النص قرينة دالة على عمق التردد المقيم في الذات / الشاعرة ، - لكن – هذه أي أداة الاستدراك تسقط ورقة التوت عن هاجس الخوف المتلبس بالذات المسكونة بالوطن / الحلم والمشغولة بالأرض الموعودة و الهوية المنشودة .

هذي أنا
أنتظر وطني ..
بين .. أوطان الآخرين
بعد أن تأخر الحب ..
عن موعده مع التائهين

فالغربة في ديوان ’’ جنيف … التيه الآخر ’’ والحنين للوطن / الحلم مرتبطان ارتباطا لا يستطيعان منه فكاكا ، يراوحان مكانيهما في ثنايا القصائد المشحونة بشعورين لا ثالث لهما : الراهن والغد المأمول ، فالراهن رهين الغربتين : غربة الأنا / هنا و غربة الأنا / هناك ، والهنا و الهناك كلاهما غربة سميكة ، فلا فرق بين جليد تنام عليه جفون الذات / الشاعرة ملء حيرتها أو تنام على تراب كأنه التبر ملء بردها لأن شغاف القلب ترنو إلى الوطن الغائب / الحاضر ، و لعل وطأة الغربة نابعة من عمق الضياع الناسل من برد الهنا و الهناك معا ...
ـــــــــــــــــــ

*المقال لفوزي الديماسي : ناقد وروائي تونسي