الأربعاء، مارس 26، 2008

مليكة مزان : شاعرة أمازيغية أقترف شعري المتمرد أنغص به حياة كل عاهر نذل من الأشخاص والعادات والمعتقدات والسياسيات والأنظمة ...

(أنجز الحوار الإعلامي الكوردي  نزار جاف لصالح جريدة "كوردستان ريبورت" الورقية)

مقدمة الحوار:

يقول نزار جاف في تقديمه للحوار:

مليکة مزان أنثى أمازيغية سعت من خلال بوابات الکلمات إلى أن تکسر أقفال الصمت العالمي حيال قضيتها. مليکة مزان امرأة صعبة المراس، وصاحبة موقف عنيد مع أعدائها وخصومها، لکنها مع أصدقائها ومحبيها تغدو أرق من زهرة يانعة، وتفتح قلبها وفکرها کي تسرد سفر العذاب، عذاب الشعب الأمازيغي، ومشاهد وصفحات في منتهى التراجيدية لأرض تامازغا.

صحيفة "کوردستان ريبورت" انتهزت الفرصة لتحاور الشاعرة المسافرة بهموم الأمازيغ، وتعرف القارئ الکوردي من خلالها بشيء من القضية الأمازيغية فکان هذا الحوار.

نص الحوار:

ـ س: هل بإمکان الشاعرة مليکة مزان أن تشرح القضية الأمازيغية للشعب الکوردي بإيجاز؟

ـ ج: القضية الأمازيغية قضية شعب بكامله، شعب عريق أصيل يسمى الشعب الأمازيغي، شعب موطنه الأصلي، كما عرف عنه ومنذ الأزل، هو تامازغا، أرضه الممتدة بشمال إفريقيا من واحة سيوا غربَ مصر حتى جزر الكناري في المحيط الأطلسي مروراً بدول مالي والنيجر وموريتانيا  بالصحراء الكبرى.

نشأت القضية أول ما نشأت عندما وجد هذا الشعب نفسه، ذات لحظة من تاريخه الحديث ومباشرة بعد طرده للاستعمار الغربي عن جل أراضيه أواسط القرن الماضي، نشأت عندما وجد هذا الشعب نفسه مضطراً لمواجهة كيان آخر لم يكن ليعتبره استعمارياً عنصرياً، أو لينتبه إلى مخططاته ونواياه اللاإنسانية قبل هذا التاريخ، هذا الكيان هو الكيان العربي الذي مازال، وفي مفارقة صارخة فظيعة، يقدم نفسه للشعب الأمازيغي على أنه صاحب دين هو نبع الرحمة وعين الكرامة للناس أجمعين، بينما كل تصرفات هذا الكيان تنم عن كثير من الخبث والعنف، وعن مجرد رغبة في استلاب الأمازيغ بهدف استغلال طيبتهم وكرمهم وخيرات بلادهم أبشع استغلال.

إنها إذاً قضية شعب انتبه فجأة إلى خطر التلاشي المحدق به ليدافع عن وجوده وحقه في البقاء على أرضه، ضد ما صار هذا الكيان العربي القديم/الجديد يحيكه من أساليب إبادته، أو على الأقل من أساليب مسخ هويته بجعله تابعاً في كل شيء لعروبة ما كان لها أن تتجاوز حدودها الجغرافية الحقيقية (والتي لا تعدو أن تكون منطقة شبه الجزيرة العربية) لولا هذا الغزو القديم المتجدد لما حولها من أراضي الآخرين.

لقد كان من الوارد جداً ألا تظهر أصلاً في شمال إفريقيا أية قضية من وزن وعدالة القضية الأمازيغية، وبالتالي ألا تكون هناك أية ضرورة لأي احتجاج أمازيغي لولا تعصب العرب لعرقهم وثقافتهم، ولولا إقصاؤهم الفظيع لنا، نحن الأمازيغ السكان الأصليين، من كل مشاركة فعالة واستفادة حقيقية ودائمة من خيرات مغربنا الأمازيغي الكبير.

ـ س: ماذا عن قضية الأقليات العرقية والدينية في المنطقة، هل هي فعلا قضية أم أنها لا تستحق هکذا حجم؟

ـ ج: ما يغيظني جداً أن عدداً من العرب العنصريين (الحكام منهم والمؤرخون والمثقفون) يحلو لهم أن يتحدثوا عن وجود أقلية عرقية أمازيغية في شمال إفريقيا فقط ليريحوا ضميرهم ويبرروا جرائمهم في حق الأمازي، لكن من سوء حظ هؤلاء أن الواقع الفعلي يقول أننا في هذه المنطقة لسنا أمام قضية أقلية (سواء أكانت عرقية أو ثقافية)، وأن ضمير العالم كله في شمال إفريقيا أمام قضية عادلة حقيقية لشعب أصيل بكامله، شعب كان هنا ومن حقه أن يظل هنا يتمتع بكل مقومات وجوده. قضية أغلبية مهمشة مهضومةِ كل حق لها مشروع، أغلبية تستحق دعم كل ذي ضمير حي، وكل من لديه ما يكفي من النزاهة والموضوعية للنظر فيها بعين العقل والعدل.

إن كانت هناك من أقلية عرقية أو ثقافية عندنا في بلاد تامازاغا بشمال إفريقيا فهما أقليتان أساسيتان هما:

1 ـ الأقلية العربية: وهي أقلية تتمتع بكامل حقوقها بل (وهنا أصل المشكلة) هي من صارت تتصرف بكل وقاحة في حقوق البلاد والعباد (السكان الأصليون). تشرع وتحلل منها ما تريد، وتحرم وتمنع منها ما لا يخدم وجودها الأناني ومصالحها الخاصة.

2 ـ الأقلية اليهودية: وتتمتع بكامل حريتها في ممارسة طقوسها الدينية ونشاطاتها الشرعية المختلفة، كما تتمتع بالاحترام الرسمي والشعبي في كل المدن التي مازالت متواجدة بها، كما لها حق التنقل الحر من وإلى بلدان تامازغا خاصة المغرب، بل إننا نحن الأمازيغ لندعو اليوم إلى مزيد من إنصاف هذه الأقلية اليهودية وإكرامها بتدريس لغتها الأم في كل المدارس المغربية والنهوض بباقي تجليات ثقافتها الأصلية.

كما ندعو إلى المزيد من التصدي الصارم مع كل أشكال الإرهاب التي تهدد التواجد اليهودي على أراضينا، وإلى التنديد بكل موقف عربي إسلامي عنصري يجرم التعامل مع اليهود وذلك حفاظا على روابط التاريخ والأخوة ما بين الشعبين العريقين اليهودي والأمازيغي.

إذا كان إذاً هذا هو وضع الأقليات العربية واليهودية عندنا، وهو وضع مريح تماماً خاصة بالنسبة للأقلية العربية، فلم يبق لدينا في شمال إفريقيا من يتجرع كل أشكال الإقصاء والحرمان والهوان إلا الأغلبية الأمازيغية التي صارت في ظل هذا الواقع (يا للمفارقة) هي الغريبة في وطنها، وهي المحرومة من خيرات بلادها، وهي المتجرعة لكل أشكال الذل والهوان دون غيرها.

ـ س: قبل عصر العولمة لم نسمع عن الأمازيغية شيئا يذكر، لکننا اليوم بتنا نعلم الکثير عنها، هل يعني ذلك أن عصر العولمة هو عصر الشعوب المنسية؟

ـ ج: عصر العولمة عصر كل الشعوب التي انتبهت إلى خطر الذوبان الثقافي في ثقافة عالمية واحدة هي ثقافة الأقوى اقتصادياً وتكنولوجياً وسياسياً. بالتالي لا يمكن أن نقول أنه عصر الشعوب المنسية فقط.

إلا أنه يمكن القول أنه عصر هذه الشعوب المنسية بامتياز على أساس أن هذه الشعوب هي الأكثر عرضة من غيرها، ومن أي وقت مضى، لخطر التلاشي والذوبان من طرف أكثر من جهة مهدِدَة واحدة. وبالتالي صارت هي المعنية الأولى بالخوف على وجودها والتصدي من هناك لكل محاولات سحب آخر إمكانيات التواجد والبقاء من يدها، خاصة وأنها لا اقتصاد لديها قوي يحميها، ولا قرار سياسي نافذ يفعل إراداتها ويستجيب لحاجياتها ومطالبها.

عصر العولمة هذا، بالإضافة إلى عصر ثقافة احترام حقوق الإنسان المتزامن معه وعصر التواصل التكنولوجي الواسع والسريع، فرصة ذهبية لانبعاث هذه الشعوب المنسية، والشعب الأمازيغي بدوره يستغل هذه التحولات والإنجازات الهامة ليسمع صوته وينتزع حقوقه، تلك الحقوق التي لم يكن في ما مضى، تحت نير التسلط العربي الحاكم والحصار الإعلامي والقانوني المضروب عليه، لم يكن ليقوى على المطالبة بها أو فضح كل الانتهاكات والخروقات الممارسة ضدها.

في هذا الإطار أستأذنكَ لتسجيل ملاحظتين:

ـ أولا: إذا كان من "سوء حظ" العولمة، في بعدها الثقافي، أن انتبهت الشعوب المستهدَفة إلى خطرها المحدق بخصوصياتها الثقافية المحلية (مع محاولة تصديها لهذا الخطر)، فإن العرب كانوا، على العكس من ذلك وقبل عصر العولمة هذا، أسعد حظاَ.

ذاك أنهم ـ وعلى امتداد تاريخهم الدموي الطويل في حق الآخرين، وحيثما وصلوا بغزواتها واستتب لهم الأمن ـ لم يجدوا عامة من يفطن باكراً لخطورة مدهم الثقافي ومشروعهم اللاإنساني الهادف إلى فرض ثقافة واحدة على كل الشعوب التي غزوها باسم التبشير بـ "دين رحمة وعدل لا مثيل لهما".

ويبقى على كل عولمة ذكية تريد النجاح في سعيها اللامباشر هذا إلى إبادة الثقافات المحلية أن تأخذ العبرة من التجربة العربية الناجحة في هذا المجال وتحاول الاستفادة من دروسها الجهنمية.

ـ ثانيا: أن العرب الذين يحتجون الآن على الآثار الثقافية السلبية للعولمة خوفاً على ثقافتهم من الانقراض أو التراجع يتناسون، في نفس الوقت، أن ما يخشونه من العولمة على أنفسهم قد جرعوه هم، ومنذ غابر الأزمنة، لكل الشعوب التي صاروا يحكمونها، وذلك باسم الاعتقاد بسمو الثقافة العربية التي ادعوا، وما يزالون يدعون، أن على يديها الكريمتين وحدهما سيتم إنقاذ العالم أجمع من عالم الجهل والضلال والظلمات.

ـ س: ماذا يهم مليکة (أ)مْـزان من أمازيغيتها وماذا تريد أن تقول للعالم من خلال ذلك؟

ـ ج: الذي يهمني من أمازيغيتي، انتماء عرقيا وثقافة إنسانية، لابد وأن يهم أصلاً كل هذا العالم، فإذا كانت الأمازيغية شأنا وطنيا يهم كل المغاربة وكل المغاربيين في مغربنا الأمازيغي الكبير  فهي كذلك شأن إنساني عام.

فكما لم يكن للعالمين القديم والحديث أن يكونا لولا ما قدمه الأمازيغ من مساهمات حضارية هامة، كذلك لا أتصور عالماً معاصراً بدون أمازيغية. ذاك أن الأمازيغية ما تزال بالنسبة للإنسانية نبع عطاء فكري وعلمي وأدبي وفني عظيم، والأهم من ذلك أنها ما تزال قاموساً رائعا لكثير من القيم الإنسانية النبيلة، لعل أكثرها مدعاة للافتخار بالنسبة لعصرنا هذا، عصر الإرهاب والقتل الرخيص الذي دشنه العرب والمسلمون ضد "كفار" العالم، هو هذا التسامح الأمازيغي الأصيل مع جميع الأعراق والثقافات، وذاك الاحترام التام، منا نحن الأمازيغ، لحريات وحقوق الآخرين.

هذا كله يكفي لأن يكون دافعاً قوياً لكل القوى التقدمية الحقيقية في العالم إلى احترام وإكرام الأمازيغية، احترام وإكرام لن يكونا إلا بالاعتراف الرسمي المحلي والعالمي الكامل بهذه الأمازيغية: أرضاً وتاريخاً، عرقاً وشعباً، هويةً وانتماءً، ثقافةً وحضارةً، حقاً مشروعاً في البقاء والكرامة.

كما لن يكون هذا الإكرام بغير العمل على حمايتها حماية قانونية دولية ومحلية، حماية ستبقى مهمة أخلاقية لا تقل نبلاً وشهامة ً عن أي مهمة إنسانية أخرى.

من جهة أخرى إن احترام الأمازيغية، في كل أبعادها السالفة الذكر، لمن شأنه أن يدعم أسس الحق والعدل في هذا العالم، ومن ثم ركائز السلم والاستقرار.

فمن أراد السلم والأمن لهذا العالم فليحترم أمازيغيتي وليقر بكامل حقوقها، ومن يبحث عن مزيد من استفزاز شعبي الأمازيغي فلينتظر حين يشتد الضغط على هذا الشعب كيف سيكون الانفجار!

عامة إن من لا تهمه أمازيغيتي وبقاؤها وتمتعها بكامل حقوقها ـ كأي انتماء عرقي وثقافي آخر ) لن تهمني، لا أنا ولا شعبي، هويته الخاصة ولا قضاياه المرتبطة بها. ومن لا يرى في دفاعي عن أمازيغيتي قيمة مضافة لإنجازات الضمير الإنساني المعاصر لا يبقى أمامي غير التشطيب عليه من قائمة ساكنة الأرض الجديرة باحترامي ومحبتي وتضامني.

ـ س: في شعرك هناك مساحات کبيرة من النزوع المتأصل للثورة والتمرد والنأي بعيداً في عوالم جديدة، هل تفعلين ذلك في عالمك الشعري فقط، أم إنك تسحبينه أيضا على المجالات الأخرى؟

ـ ج: صحيح أن الروح التي تميز أشعاري لن تكون غير روح التمرد، ذاك التمرد الذي يجد كامل نشوته في اقتراف كل ما هو صادم قوي للقارئ التقليدي الكسول وعلى كل المستويات، مستويات مضامين النص وصوره الشعرية بل وأغلب مفرداته اللغوية.

غير أني إذا كان هذا تمردي على مستوى كتابة القصيدة شكلاً ومضموناً فإن لتمردي امتداداً في حياتي اليومية، ذاك أن كل ما أكتبه أعتقده أيضاً عقيدة راسخة، بل وأمر به إلى مستوى التفعيل والممارسة فأرفض بتمردي ما أستطيع رفضه، وأتحايل به على ما استعصى عليَّ حتى أول فرصة مواتية. بل إن تمردي الشعري نابع أصلاً من مبادراتي الحقيقية (السابقة عليه زمنيا) إلى إعلان العصيان والرفض والاحتجاج على كل ما هو لاعقلاني ولاإنساني.

فمع اقتراف أي نص متمرد غالباً ما أكون، قبل اقترافه، قد ثرت على كل معاملة وحشية بحقي، أو أكون قد خرجت إلى الشارع للتنديد بسياسة جهنمية ما، أو قد وقعت على عريضة تضامنية مع أي مقهور مستصرخ، شعباً كان أو فرداَ، أو قدمت دعماً معنوياً أو مادياً ولو بسيطاً، إلى كل من لجأ إلى قدرتي المتواضعة على العطاء والمحبة.

إن التمرد دافعي وغايتي ووسيلتي، كما أنه فلسفتي وكل معنى حياتي، ولكَم أخاف عليه من لحظات ضعفي وقد صار كل رصيدي، بل أراني أتحمل تبعاته بتمام رضى بعد أن ألحقتُ ـ من أجل البقاء عليه عقيدة ً لي ـ عظيماً من الخراب ببيتي وحياتي...

وليس لي أن أتنكر أبداً لهذا التمرد أو أن أفكر في أي توبة عنه: فيه أصالتي، فتحرري، فكرامتي. بل فيه انتقامي من كل أشكال الإفلاس الأخلاقي الخاص والعام، ذاك أني أؤمن عامة أن الشاعر/ة إما أن يكون منسجماً في سلوكاته مع نفسه وقناعاته، وفياً أيما وفاء لمعتقداته ومبادئه وأحلامه أو لا يكون.

ـ س: بإمكان الأديب أن يصبح سياسياً، لکن العکس ليس بالإمکان، ما هي وظيفة الأديب تحديداً، خصوصاً في هذا العصر المتخم بالتطورات الغريبة المتلاحقة، هل مازال في المقدمة؟

ـ ج: وظيفة الأديب، في أي لحظة وبكل مكان، أن يكون ضمير الإنسانية الذي لا يغفو ولا يموت، وعلى أديب اليوم أن يجعل من التطورات التي يعرفها العالم الآن دافعاً له أقوى، وأكثر من أي وقت مضى، إلى مزيد من لعب هذا الدور الريادي العظيم، خاصة وقد استجد ما استجد من قضايا وظواهر خطيرة متعلقة بشكل وثيق بحياة الإنسان المعاصر، أمنه وكرامته، سعادته ومصيره.

هذا الدور الريادي للأديب نوع من المشاركة السياسية منه، ولو من بعيد، في تدبير الشأن العام محلياً كان أم عالمياً، وهو دور يجعله دائماً في المقدمة، ولا شيء يجبره على التخلي عنه غير خيانته لأمانة الرسالة التي على عاتقه بأن يبيع ضميره مثلا مقابل مصالح شخصية تافهة أو مكاسب مادية زائلة، أو يفتعل الصمم والعمى إزاء كل أشكال القبح ومستوياته، فيبدي القاتل من اللامبالاة إزاء كل شأن إنساني مصيري، أو يجبن أمام قوى الطغيان وضغوطاتها القوية المقيتة، أو يتوقف عن الإيمان بجدوى ما يؤديه للإنسانية من خدمات النقد والتوجيه كلما أحس بالواقع يزداد وقاحة وفظاعة.

ـ س: مليکة لها العديد من الأصدقاء الكورد ومن مجالات متباينة، ماذا تعلمت من خلال هؤلاء عن القضية الكوردية؟

ـ ج: بفضل علاقتي مع شعراء ونشطاء كورد لهم وزنهم داخل كوردستان العراق، وكوردستان سوريا بصفة خاصة، ومع بعض الأكراد المقيمين بالمهجر اطلعت على أهم الخطوط العريضة في القضية الكوردية.

لم يكن لي، أمام قصائد ملتزمة رائعة لشعراء كبار من هؤلاء الأكراد ومقالات قوية للحقوقيين منهم، إلا أن أؤمن بالقضية الكوردية قضية إنسانية عادلة، عادلة من حيث أنها قضية كيان إنساني، عرقي وثقافي، له جذوره القوية العريقة في المنطقة، كما له مميزاته الخاصة التي هي مقومات وجوده وشروط بقائه واستمراره، قضية شعب عانى ما عاناه من التسلط العربي والتركي والإيراني وبنفس القوة، قضية لم تتعامل معها حكومات وشعوب العالم والمنطقة بغير منطق الاتهام والعمالة (الموقف العربي الإسلامي) أو منطق الاستخفاف والدفاع فقط عن المصلحة الخاصة (الموقف العربي والإيراني والتركي والغربي على حد سواء). كما اطلعت على أشياء أخرى مؤسفة ما كان لها أن تخدم عدالة القضية الكوردية في شيء وتتعلق بالشعب الكوردي نفسه (تماما كما نعاني منها نحن الأمازيغ).

تتجلى هذه الأشياء المؤسفة في:

1 ـ تشتت الصف الكوردي من خلال الصراع الدائر بين الأحزاب والتيارات المختلفة التي تشكل النسيج النضالي الكوردي مع سوء اختيار وسائل التحرر وإستراتيجيته وغياب أي اتفاق بهذا الصدد.

2 ـ بعض الخيانات التي يقترفها الكورد أنفسهم ضد قضيتهم الوطنية والقومية كالتعامل مع الأعداء (ولو بحسن نية وبكثير من الغباء)  قبل الأصدقاء، على ندرة هؤلاء الأصدقاء إن لم نقل انعدامهم.

3 ـ بقاء كثير من فئات الشعب الكوردي تحت هيمنة الإيديولوجية العربية الإسلامية، ورفض الإتيان بأي مبادرة حقيقية جريئة للتحرر الذاتي من كل أشكال الاستلاب والاستغلال.

ـ س: ينظر العديد من الکتاب والمثقفين العرب وغير العرب من أبناء المنطقة إلى تجربة حکومة وبرلمان إقليم کوردستان على إنها إسرائيل ثانية، ماذا تقول مليکة مزان بهذا الصدد؟

ـ ج: حين يتعلق الأمر بقضية إنسانية عادلة وبضرورة انعتاق شعب أصيل عريق مثل الشعب الكوردي الصامد لا يجب الالتفات أبدا إلى هذه المواقف العنصرية اللامسؤولة من أشباه المثقفين. هي مواقف لن تسيء إلا إليهم على اعتبار أنهم لا يحاولون بها غير وضع العصا في عجلات انفراج هو سائر حتماً نحو استرداد الشعب الكوردي لكامل أراضيه وممارسته لحقه في الاختلاف، والتمتع بكل حقوق هذا الاختلاف.

ثم إن نظرة كهذه لكوردستان على أساس أنها إسرائيل ثانية ليس فيها رفض فقط لحق الأكراد في إقليم اسمه كوردستان العراق (إن لم يكن حقهم في وطن قومي قائم بذاته ومن واجب كل نضال كوردي أن يسير في اتجاه تحقيقه)، وإنما فيها أيضا رفض ضمني وشبه صريح لكل اعتراف بإسرائيل. مما تتضح معه النزعة العنصرية المغالية لهؤلاء المثقفين ولاواقعيتهم.

ويبقى على أشباه هؤلاء المثقفين أن يقولوها جهاراً: "الموت لإسرائيل!"، ثم أن ينْظموا بعدها إلى كل الإرهابيين البشعين، هؤلاء الإرهابيين الذين لا يعيش العالم ما يعيشه الآن من مظاهر الرعب والقتل والخراب إلا بسبب استنكارهم لحق إسرائيل في الوجود، بل بسبب رغبةٍ منهم مجنونة ولاإنسانية في محو أي وجود آخر غير عربي وغير إسلامي في المنطقة، بل وفي العالم بأسره.

شخصياً لا أستطيع تحمل منطق مريض كمنطق هؤلاء، فكلما ناضل صاحب حق لنيل حقه، ثم نال (أو لا يكاد) من ذاك الحق بعضَه إلا وتعالت أصوات هؤلاء القذرين باتهام صاحب الحق هذا بالعمالة، أو بالرغبة في إشعال نار الفتنة والحرب الأهلية، أو بالنزوع إلى تشتيت وحدة الوطن وتمزيق جسد الأمة (ولا أعرف عن أي وطن ولا عن أي أمة يتحدثون)، يفعلون ذلك وكأن عقولهم لا تتصور وجوداً للآخرين، إلا بمواصلة تجرع هؤلاء الآخرين لكل أنواع الإهانة العربية لهم، وشتى أشكال الإبادة الممنهجة ضدهم، كما لا تتصور سلماً بين الشعوب إلا أن ترضخ كل الشعوب لنزوات العرب كأقلية حقيقية تريد أن تعيش على حساب كرامة وحقوق أغلبية سواء في الشرق الأوسط أو في شمال إفريقيا أو في أي منطقة أخرى من العالم.

ويبقى أن نتساءل أمام بشاعة عقلية عربية مثل هذه: ماذا لو لم تكن هناك هذه الشرذمة العربية في المنطقة، هل نحرم الناس من أي حق في الحياة وفي الكرامة فقط لأن المنطقة لا يوجد بها عرب؟!

والله إن هذا لمنطق مريض وجنون مبين، لم أر لهما مثيلاً في العالم بأسره غير منطق الرجل الغربي في الأمريكيتين وفي أستراليا، هذا الرجل الغربي الذي لا يكف العرب والمسلمون عن انتقاده وهم مثله أو أفظع منه بكثير.

ـ س: هل من رسالة خاصة تبعثين بها للشعب الکوردي؟

ـ ج: للشعب الكوردي العظيم أقول: إني لدائمة الإحساس (ومعي كل الأمازيغ طبعاً) بفظيع من الألم كلما تكررت مشاهدتي لصور تلك المذابح المقترفة في حق مدنييك العزل، أو قرأت أخباراً عن اعتقال نشطائك السياسيين والحقوقيين، أو قمع وتهديد مثقفيك وصحافييك الشجعان الرائعين، أو عن رحيل عدد من مناضليك الأوفياء وفي أنفسهم غصة: كونهم رحلوا ولم يروا بعدُ وطناً قومياً يجمع شتاتك أخيراً ما بين دول عنصرية ودول إرهابية ومناف شتى بكل أنحاء المعمور.

وأراني أتساءل مع هذا وذلك حائرة عاجزة:

بأي اللغات يا ترى يمكن إقناع كل هؤلاء الطغاة من العرب والفرس والأتراك بحاجتك أيها الشعب الكوردي المقاوم إلى تفهم الجميع ومحبة الجميع وتضامن الجميع؟!

كما أني، أمام إحساس فظيع كهذا بالقهر إزاء تعنت كل الحكام العنصريين والمثقفين المستلـَبين في المنطقة، لَيراودني حلم أعرف كم أنه صعب، حلم مفاده لو أن شعوب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تستدرك أنها لا تعدو أن تكون مجرد مستوطنات عربية ليس إلا. وأن تبادر من ثمة إلى القيام بثورة عارمة في وجه الطغيان العربي والإرهاب الإسلامي، لعل هذه الشعوب تتمكن أخيراً من حقها في الحياة الكريمة الحرة الآمنة، بعيداً عن الذوبان المقيت في ثقافة العربي الجاحد لحقوق غيره في المنطقة، وبعيداً عن ضغوطات أي إرهابي يهدد أمن الناس وسعادة الناس في سبيل الانتصار لدين، أثبت التاريخ الدموي القديم والحديث للعرب والمسلمين أن لا رحمة فيه إلا ادعاء وبهتانا.

وخلاصة رسالتي للشعب الكوردي أنْ كن أيها الشعب العريق العظيم في مستوى أي شعب يستحق الاحترام والحياة، ولا تقنع من يد الطغاة بغير وطن قومي يثأر لكل شهدائك الرائعين، ويجمع شتاتك من كل تشرذمات الأمس واليوم، ويمنح ما ينبغي من الظل والشمس، ومن الحب والدفء، ومن الماء والخبز، ومن الكرامة والمجد لكل أبنائك الصامدين.