السبت، مايو 08، 2010

مليكة مزان الشاعرة التي هزت عرش الشعر في المغرب

بقلم أحمد برطيع *
ـــــــــــــــــــــ
تزخر التجربة الشعرية المغربية بالكثير من القامات الشعرية النسوية الكبيرة والمبدعة، وكباقي الميادين الإبداعية يخضع هذا المجال الإبداعي للاحتكار حتى أنك لا تكاد تسمع إلا أسماء معينة في الملتقيات الثقافية، لهذا أردنا أن نسلط الضوء على شواعر مكثت طويلا في الظل، ليس لضعف قصيدها بل لتعففها .

في إحدى أماكن الظل وجدنا الشاعرة الأمازيغية مليكة مزان تقول " أمي يعجبها عشق الغرباء " ، وكلمة الأم هنا توحي بالانتماء للأرض ، بالأصل الأمازيغي للشاعرة .

عند قراءة دواوينها تجد نفسا غريبا يشدك إلى الاستمرار في القراءة بنهم .

ذكرتني هذه الشاعرة بامرأة أخرى : الشاعرة النارية ، الفارسية التربية والخلق والثقافة ، والمنبوذة من طرف مجتمعها الذي لم يكتشف نبوءتها الشعرية إلا بعد رحيلها بعقود .. إنها الشاعرة العاشقة ″ فروغ فرخزاد ″ ، لها العديد من الدواوين الشعرية الجريئة والمتمردة على الملك شاه إيران .

تقول الشاعرة الإيرانية ″ فروغ فرخزاد ″ في إحدى رسائلها إلى صديقها القاص الإيراني ″ إبراهيم كلستاني ″ بعد حفل تكريمها : ( بين هؤلاء الناس المختلفين ، كم أنا وحيدة ، أحياناً تتمزق أنفاسي حزناً ... إحساس خارج دائرة الوجود وجريانه يخنقني… ليتني ولدتُ في مكان آخر ، مكان قريب من مركز الحركات والارتعاشات الحية )

تواصل نقل وجعها بقولها : ( واأسفاه… أكان علي أن أتلف عمري وقدرتي كلها فقط وفقط من أجل حبي للأرض واعتناقي لذكرياتي في الحظيرة المترعة بالموت والاحتقار والعبث ؟! هذا ما فعلته حتى الآن. أقارن ذلك التدفق الحي الذكي… أية قدرة يتقدم بها إلى الأمام ليوقظ الاشتياق إلى الإبداع والخلق . )

من شدة التزامها وحبها للأدب الجاد والنقي ترفض احتضانها من طرف المؤسسات الثقافية المشبوهة في إيران تقول ″ فروغ فرخزاد ″ : ( رأسي ممتلئ ظلاماً ويأساً. وأتمنى الموت. أموت ولا أضع قدمي في مؤسسة فارابي (مؤسسة سينمائية إيرانية لا زالت موجودة) ، ولا أرى مجلة ( ... ) ذات الرسالة الساقطة ، والتي لا تساوي خمسة ريالات ... )

والمرأة الثانية الشبيهة ( مليكة مزان ) شاعرة أمازيغية بلسان عربي فصيح ، فلتة جنونية في الشعر المغربي ، مازالت حية تصارع نكران أهل البلد وجحودهم من المبدعين والشعراء وبيوت الأدب والحكمة ، وتصارع الظلام المحيط بها، تقول مثلما قالت فرخزاد:
’’ وجهي ..
لا .. تسقطه ُ الصفعاتُ ،
قصائدي ..
فؤوس .. اقتلاعْ ،
رقصاتي ..
مضمونة ُ المقاصلْ ! ’’
في سحنتها الكثير من الحياء المغري بالجدل، متوسطة الطول، عذبة الروح ورائعة الشعر،
هي من تخوم المغرب غير النافع، من آيت اعتاب قرية احتوت كل الناس الطيبين، قرية تلامس بني ملال المدينة التاريخية التي كان قدرها أن تنجب امرأة انقلابية .

عندما تضحك تتفتق شفتاها عن أسنان بيضاء مرصوصة بعناية ، عندما تحادثك لا تثبت يديها، وكأن بها مس من الشعر، تستمع، متوجسة مما تقوله، ثم تلقي برأيها صادما كارتطام البحر بالصخر !

مزمجرة، هادئة، أحيانا، شاعرة دائما، محاصرة أبدا، كتبت، ويا ليتها كتبت منذ زمن، حين كان المد أحمر .. اسمها أيقونة الأحرار في بلاد الأمازيغ وكنيتها رسولة عشق بين البشر !

شاعرة هزت عرش الشعر في المغرب ، لم ينتبه لها أحد، تشعر دائما بالغبن والجحود من لدن أناس اعتبرتهم رجالات قضيتها، قبل الغدر ...
تصبح غالبا وحيدة ، تسعفها دائما أنغام موسيقى الأطلس التي تلملمها في بيتها الأنيق .

مربية تمردت على الأدب ، وغاصت في بيوت الشعر العميقة ، وأفرزت أجمل ما أذكرها به :
" قبل أن تحن إلى نهدي ..
تبين أولا ملامحَكَ بين الجثث ْ ! "
على رغم وجود نساء في الأدب المغربي، تبقى مليكة مزان المتمردة الوحيدة الخارجة عن الصراط المستقيم للطاعة والخنوع والاستلاب . تعتبر شعبها شعبا حرا كما يسمى ولكنه لا ينتج الآلهة ، بل هو تابع عن تابع عن تابع ...

أمازيغية المنبت والأصل، ضحت بكل شيء، حتى الرفاه الذي كانت تنعم به .

قصائدها محرقة كالصواعق، ونافذة كالسلطة والحب والرذيلة ...

تقول ذات قصيدة أثقلتها بعنوان رهيب : ( أمي يعجبها عشق الغرباء )
’’ لو فجرتُ القصيدة َ ..
لتحررتُ مقدارَ .. قرية وحانة
ولكن أمي يعجبها عشق الغرباء ! ’’
رغم بلوغ دواوينها العدد السادس والسابع القابع في أحضانها، في غياب عرفان من البلد ورجالات القصيدة ، لم ينتبه إليها أحد، إلا ما كان من أحبائها وعشاق شعرها، والسبب دائما، ميز أو تمييز ضدها، لأنها ترفض أن تلقي بسحر قصائدها في كنف نعوت اعتبرها غريبة، وتقول دائما: أنا شاعرة أمازيغية .

تكتب، ولو قدر لك أن تقرأ قصائدها الممنوعة حسبتها النبي بصيغة المؤنث ، هكذا انتقمت من كل الذكورة في قصيدة صاغتها لأرض ارتضتها أرضا لها ، وعانقت البلاد بسوابق من ملفها النقي ، وهاجمها عتاة الليل ، كما يفعل بالكبار، قالوا عنها، والأصح أن يقولوا في قصيدتها : ″ أنها عاهرة ″ ، وهي لا تنفي التهمة عن القصيدة، وتتعفف في شخصها عن النعت، وتقول: أنا شاعرة أمازيغية دائما .. هكذا تذكر الكفار بشعرها..

تحتفل ، أيما احتفال ، بحريتها التي كبلتها لدهر، ودهرين، و أدهرة غابرة في كنف عافته من عفونته وجحوده وتسلطه، لا لشيء إلا لأنها قالت : أنا الشاعرة ... !

دواوينها كل ديوان بمحنة : المحنة الأولى خيانة العشيرة، والمحنة الثانية جرح ورذيلة، والمحنة الثالثة قلة حياء الجميلة، والمحنة الرابعة سر في خميلة، والمحنة الخامسة قالت : أنا القتيلة، والمحنة السادسة أدفن في آيت اعتاب القبيلة وموطن الأب المحارب القديم والخالد دوما في الذاكرة ، ومحنتها السابعة كلام للملاعين تقول فيه:
″ بحاجة أنا ..
إلى فضيحة من وزن عشقنا
للعصافير
تكشف عن سرنا
للأشجار ِ ، للأنهار ِ
للمروج ِ ، للفصول ِ،
لأقسى الأرباب ، لأبعد النجوم ْ !
بحاجة أنا ..
إلى حبكَ .. ثقافة ً وجنسية ْ ،
إلى حضنكَ .. خريطة ً ووطنا َ !
بحاجة أنا …
كي أعود إلى ربي
راضية ً مرضية
وتكون لي
غلمان الجنة ِوأزاهير الجحيم ْ !″
رغم قوة شعرها، وعدالة قضيتها، التي سخرت شعرها لخدمتها، لم تنل الشاعرة مليكة مزان مكانتها بين الشواعر المغربيات، وذلك بسبب انحسار إشعاعها وتجاهلها من طرف الملتقيات الأدبية التي تقام في المغرب، و إقصائها من طرف المنظمين، بسبب احتجاج الشاعرة المتكرر على الصيغة التي يقدمونها بها كشاعرة عربية، ملحة على أنها شاعرة أمازيغية ناطقة بالعربية .

لا تفوت الشاعرة نشاطا ثقافيا يهم الثقافة الأمازيغية، وتبادر دائما بالتصريح بمواقفها بكل جرأة ...

لا يحتويها الخجل عند الكلام عن الشعب المغربي الذي تعتبره أمازيغيا ...

يؤاخذون عليها امتهانها العهر في القصيدة، وفي جوابها على سؤال بأية لغة تصرخين قالت وكعادتها: ″ منذ أن فقدت ثقتي في الصلاة عامة، وفي إله ودين العرب، صرت أصرخ بلغات ثلاث لا رابع لها: القصيدة العاهرة، كسر أواني المطبخ، البصق حولي كلما عضتني قسوة الأشياء أو أفقدني صوابي خبث المكان واللحظة والآخر الكريه ، أقول الكريه لسبب واحد: قسوته وإصراره على رفضه لي، وجحوده لحقوق شعبي وأرضي في الوقت الذي يتمتع هو فيه وقومه/عصابته بكامل اعترافي) ! ″

أليس هذا ما قالته ″ فروغ فرخزاد ″ القتيلة حين كتبت :
″ أبدا ما تمنيت أن أكون نجمة في سراب السماء
ولا شبيهة بأرواح المصطفين
أو جليسة للملائكة..
أبدا.. لم أكن منفصلة عن الأرض
لم أتعرف إلى النجمة.
على التراب وقفت
بقامتي مثل ساق نبتة
تمتص الهواء والشمس والماء
لتحيى ″
لكن، وبإلحاح، هل لم يبق أمام الشاعرة القاهرة من سلاح غير قصيدة العهر ، أم أنها أرادت أن تقول أن حتى اللغات المقدسة "فاسقة" وأن في لغتها المنسية ما يكفي من الطهارة ؟!
ــــــــــــــــــــــ
أحمد برطيع : كاتب صحافي وناقد أمازيغي