الأربعاء، مارس 26، 2008

علي الإمارة : الشاعرة مليكة مزان و .. عندما يتكلم جسد المرأة ...

كانت المرأة ولا تزال كمعشوقة في تاريخ الأدب العربي ، مركونة في ضمير الكلمة ومعلقة في فراغ الهواجس والتعابير ؛ فحين نلتفت إلى التراث الأدبي وفي الشعر الغزلي أو العشق العذري ، كما سماه تاريخ الأدب ، لا نجد صدى لتلك القصائد الغزلية أو العذرية من قبل المرأة المعشوقة ، فلم نقرأ بيتا من الشعر أو تعليقا على بيت أو حدث أو أي نص مهما كان قصيرا يعود إلى ليلى العامرية محبوبة قيس بن الملوح ، أو بثينة محبوبة قيس ، أو جنان حبيبة أبي نؤاس أو غيرهن من اللواتي كتب عنهن الشعر ، وظلت صورهن في التاريخ مثل أشباح نساء لأنهن خارج النص الأدبي كلسان وخطاب ، وداخله كموضوع ومخاطب ، أي أن تهميش المرأة المعشوقة في التراث الأدبي ، كذات قائلة ، كان موازيا لتمجيدها كذات مقولة ، ولا سيما حين تكون هذه المرأة معشوقة أو جسدا يقال فيه الشعر..

ولم نقرأ قصيدة غزلية للمرأة في الرجل كما لم نقرأ كلاما لجسد المرأة يرتقي إلى أن يكون نصا .. كانت المرأة خارج المتن الشعري الذي يمجدها أو أنها خارج إطار اللوحة التي ترسم لها وعنها .. فصارت صورة أكثر منها حقيقة وخطابا أكثر منها ذاتا ..

أما جسدها – المرأة – فقد كان التعتيم الفني عليه أثقل وطأة وأبعد تهميشا ونسيانا أو إلغاء لأن الهاجس الديني أو الأخلاقي كان وما يزال قامعا لخطاب المرأة ، ولاسيما لخطاب جسدها حين يريد أن يكتب نصا ما .. لذلك حرم القارئ العربي من نصوص الجسد حتى لو كان هذا الجسد ملائكيا أو كان خطابه نبيلا فوق الشبهات ..

من هنا كان الخطاب الشعري للشاعرة المغربية مليكة مزان يحمل صدمته للقارئ العربي المنتمي إلى ذائقة شعرية ذات خطاب ذكوري حبس المرأة داخل النص الشعري الذي يريده هو لها ، ولم يستمع إلى صدى الخطاب أو الخطاب الآخر القادم من خارج النص نصا شعريا جديدا على هذا القارئ أن يهيء ذائقته له ويكيف حواسه لتلقيه ..

فمن ديوانها الشعري المعنون ( متمرداً يمر نهدكِ من هنا ) تختار لنا ثلاث قصائد الأولى بعنوان ( ما ثمة غير نهدي فاغنموه ) والثانية ( عواء هذا الجسد ) والثالثة ( من التراث العالمي للأمازيغ – علمانية النهد ) وتنشرها لنا في موقع – الهدف الثقافي - حيث تركز على نداء الجسد وخطابه الحسي ولا تكتفي بالخطاب الوصفي التصويري للجسد بل تستدرج المتلقي الذكوري إلى منازلة نصية لم يحسب لها حسابا فيقع في المنطقة الفاصلة أو الواصلة بين الجسد والشعر ، أو بين الشفة والكلمة ، فالنص يتقدم بقوة إلى المتلقي حاملا معه شعريته وأنوثته ومستفزا المساحة الذكورية من التلقي التي تعودت أن تنظر إلى ضفة واحدة من نهر الشعر وتجاهلت الضفة الأخرى الأكثر إثارة وصدما ..

لقد كان الشعر العربي نهرا بضفة واحدة ! فلنزح الغشاوة الذكورية وننظر إلى الجانب الآخر لعل هناك شاطئا آخر للنهر الذي غرقنا فيه منذ قرون ولنصغ إلى النداء القادم مع موجات النهر المنسية وهي تنتفض على إهمالنا لنصف النهر الآخر وتداهمنا وتصعد إلى أسماعنا الغافلة :

لكل جسد رب يأويه ،
عواء هذا الجسد
لكم اكتأب العواء ..
في أعالي الجوع ...

ها هو الجسد يدق الأجراس فثمة صوت قادم من أعماق النص الذي تناسى أو ألغى هذا الصوت وانشغل بصاحب الصوت ... وصَف الشفاه ولم يستمع إلى همسها أو إلى عنفوان ندائها فتراكم هذا النداء الجسدي عبر الأجيال والعصور فحين ينهمر.. على المتلقي الذكوري أن يستقبله كنص مكبوت ومدفون في الشفاه لا كجسد يحاول التمظهر بالأنوثة والغواية في فضاء الكلمات ..

إذن علينا أن نهيء مساحة من التلقي لهكذا نص فإذا كنا قد استمعنا إلى نداء المرأة و خطابها الشعري ممثلا مشاعرها وهواجسها ومحاولتها الانصهار في الخطاب الشعري العام فإننا لم نسمع نداء جسدها وصوت أنوثتها ونصها الذي تلقيه علينا مفاتنها التي كانت موضوع النص الشعري دائما .. وحتى الشعراء الذين تناولوا جسد المرأة بجرأة شعرية مثل نزار قباني .. لم يصغ إلى نداء جسد المرأة بل كان يقف أحيانا بخطابه النرجسي كرجل عربي مالك للمرأة وكشاعر يشاكس المرأة بخطاب شعري يكون الجسد موضوعه :

فصلت من جلد النساء عباءة وبنيت أهراما من الحلمات .

لقد كانت حلمة واحدة كافية لتسع حلم الشاعر ..

ويكمل :

لم تبق زاوية بجسم جميلة إلا ومرت فوقها عرباتي

بل يذهب إلى مساحة البذخ اللفظي والموضوعي ليجعل المرأة من جواري النص حد أن يصبح هذا البذخ مأساة كمأساة هارون الرشيد في كثرة الأجساد الأنثوية المتهافتة عليه :

مأساة هارون الرشيد مريرة لو تعلمين مرارة المأساة

أجساد كثيرة حد المأساة ولكن لا نص يأتي من هذه الأجساد .. لا كلمة لا حرف .. جسد أنثوي لا يقول شيئا إنما يقال فيه كل شيء ..

ولعل بعض المقاربات الشعرية في الشعر العربي القديم استنطقت جسد المرأة لكنها على أية حال تندرج ضمن الخطاب الذكوري للنص كما في قصيدة دوقلة المنبجي الذي يرسم لوحة متناسقة لجسد المرأة يقول فيها :

وَبِصَـدْرِها حُقّانِ خِلْتَهُما
كــافـورتينِ عَـلاهُـما نَدُّ
ـ
والبطـنُ مَطـويٌّ كما طُوِيتْ
بِيـضُ الرِّيـاطِ يَزِينُها المَلْدُ
ـ
ولها هن راب مجسته وعر المسالك حشوه وقد
ـ
فإذا طعنت.. طعنت في لبد وإذا نزعت يكاد ينسد
ـ
والتف فَخْــذَاها وَفَوقَهُمَا كَفَلٌ ، يُجـاذِبُ خَصْرَها ، نَهْدُ

ومع كل هذا التماهي الشعري مع الجسد الأنثوي.. بقي صوت الأنثى خارج النص لذا وقفت الشاعرة مليكة مزان عند هذا الحيز المفقود من التمرد النصي الأنوثي فلم تلغ مفردة من الخطاب الجسدي وتركت الجسد يسير على مساحة النص بحرية الكلمة التي تحمله أو يحملها إلى المتلقي .. تلك التي لا تقف عند الجسد كوصف بل تتعداه إلى الفعل الجسدي ومشاكسته الخطابية :

ثمة أربابٌ ،
لكني من حسمتُ ملتهُ :
مضاجعة ُ الفكرةِ
بديلاً عن أي ما ربْ !

لكن مليكة الشاعرة الأنثى تذهب إلى الحافة الخطرة من الرضا والقبول عند المتلقي رغم أنها تتكلم بصوت أنثى ما .. لا صوت الشاعرة التي كانت واسطة الخطاب أو المؤدية له كرسالة تبليغية يحملها بريد الشعر إلا أن المتلقي يقف معها على هذه الحافة :

من جوعهِ
أعجن الجسدَ ،
من عهريَ أنفخ فيهِ :
أكتفي .. بانتشائه المرْ

ما زال فضاء الدلالة يستدعي التواصل مع النص وهو يتقدم بجرأة الخوض في فضاء الجسد وتداعياته ..

بل إن مرارة الانتشاء تنتقل إلى القصيدة الأخرى ( من التراث العالمي للأمازيغ – علمانية النهد ) لتكشف عن جسد أو نهد عصي ليس له سبيل سوى أمازيغ الجراح وكفر كثيف :

رُب نهدٍ لنشوةِ السكـر ِ،
إلا نَهديَ الأطلسُ المــــرﱡ

كيف السبيلُ إلـــيْ ؟!

رُب نهدٍ لزينةِ الصباح ِ ،
ونهديَ لأمازيغ ِ الجراح ِ ،

وكفر ٍ كثيفْ !

ولكن هذا الكفر الكثيف يأخذ النص إلى مداه الأبعد وإن كانت كلمة الرب في المقطع الآتي تعني صاحب الشيء إلا أن هذا التأويل التبريري لا يمنع النص من تمرده وعبوره الخط الأحمر من المساحة المسموح لها في ذاكرة وذائقة التلقي للشعر العربي لكن النص مصر على صدمته لا على مستوى حدوده كجسد يتكلم بلغة مفاتنه بل على مستوى امتداد الخطاب إلى مساحات أخرى تقع ضمنها الممنوعات الثلاث المعروفة في الواقع أو الأدب العربي وهي الجنس والدين والسياسة ، هذه التي لم يقف عند أي من حدودها أو يتحاشاها نص الشاعرة مليكة مزان :

ولأني من تضاجعُ الربﱠ
بنهد يختلفُ عن باقي السبايا
أرى الربﱠ ينسف جسدي ..
بدين القتل ِ وفِقهِ الرزايا ...

بيد أن قضية مليكة الشعرية لا تقف عند حدود الجسد ولغته وتحولاته النصية بل تجعل منه مادة لإدانة الآخر وكأن الجسد لا يتعرى في النص إلا لكي يعري الآخر سواء كان هذا الآخر شخصا أو مجتمعا أو زمنا أو واقعا معاشا فهي توجه خطابها في قصيدة – ما ثمة غير نهدي فاغنموه - إلى كل أشكال العهر العربي – كما تذكر - ولأن الجسد هو الأداة التي يتراءى عليها العهر بكل أشكاله .. السياسي والاجتماعي والاقتصادي وغيره فهو - الجسد- الوعاء الأول للعهر ثم ينزاح هذا العهر بطريقة المجاز إلى المناطق الأخرى خارج الجسد لذلك تصرح الشاعرة الأنثى :

العاهرة َ ظننتـُني ،
ولديﱠ الرجالُ ،
والشرفاتُ والورد ُ والفصولُ ؛
وما العاهرة ُ ،
ويلي ،
غيرُ أورامي ،
وعجزي عن صنع انتقامي !

تتمرد الشاعرة على واقعها وزمنها فتجعل من جسدها أو من بعضه خطابا ورمزا لهذا التمرد كما يعلن عنوان الديوان – متمرداً يمر نهدكِ من هنا – ولكنها لا تقف عند حد لتمردها و لا تهادن أحدا فالعهر شامل والجسد مرآة له والشاعرة ماضية في الخطاب الجسدي النصي حتى لو اتهمت بالابتذال أو العهر نفسه ، فالصدمة التي تتمخض بها لغتها الشعرية الأنثوية لم تضع في حسبانها أن يفرش لها الدرب بالورود بل إن كلماتها ستصل إلى المتلقي الذكوري مدماة بصلابة الحجر والأشواك التي تسير بينها كلماتها المشاكسة حتى مع نبي أو رب .. !

عن نبيﱟ
بدين النهدِ
يكتبُ سيرة َ النهدِ ..
كم سألت ُ ،
حسبي أني أكتبُ سيرة َ النهدِ
بما كان من ذئابْ !

أما الأداء الفني من القصيدة فعلى الشاعرة أن تتنامى به إلى أعلى مستوياته بين اللغة الشعرية المتماسكة وبين الصورة الشعرية التي تحمل في طياتها مجازا شعريا عاليا أعلى من المجاز الذي امتد من جسد المرأة إلى الأشياء الأخرى .. لكي تسوغ تحديها الدلالي بتحد فني شبيه .. فمع كل التماعاتها الفنية على مستوى الصورة أو اللغة الشعرية فقد بقيت المسافة بين الشعر والجسد أبعد من المسافة بين الجسد وتحدياته أي أن نصها الجسدي ما زال يبحث عن آفاق فنية أوسع .

بقلم :
الناقد العراقي : علي الإمارة
alikalafalemara@yahoo.com
السبت : 2 / 12 / 2006