الخميس، مارس 27، 2008

محمد أسويق : جدلية التراث والهوية في كتابات الشاعرة الأمازيغية مليكة مزان

( ردا على مقال الناقد العراقي علي الامارة )

في النص الإبداعي للشاعرة الأمازيغية مليكة مزان يتعالى صوت الوجود المضمخ بعبق التاريخ ...

يتعالى بوح الأطلس خارج شرنقة التدجين والتطويع والتشويه ...

يتعالى صوت الشاعرة مليكة مزان كامرأة أمازيغية تعشق الإبداع من وحي الحياة وهي تمارس حريتها خارج أي قناع مصطنع لفضح الهتك المتستر بعباءة الليل ... أو بخلفية إيديولوجية أخرى تسعى لتوهيم الإنسان الآخر المغلوب على أمره .

مما ظلت الشاعرة الأمازيغية معه مصرة على اقتحام الإبداع وهي تنبش في ثنايا الهوية والتراث كتيمات مرجعية لمشروعية نصوصها التي امتطتها كشكل من أشكال الانتماء للصرح الحضاري المتجذر في التربة الإفريقية وبكل منازع إنها الحضارة الأمازيغية بتاريخها العريق الذي عاصر الفراعنة واليونان ...

لكن ولسوء الحظ يبقى تجاهل بعض الكتاب والنقاد لخصوصيات هذا الامتداد الحضاري الذي تشتغل عليه الشاعرة مليكة مزان خسارة كبرى وهم يخطئون في حق الغير بدون مبرر معقول ومقبول علميا ولا فكريا كما جاء في مقال السيد علي الإمارة من العراق في مقاله : عندما يتكلم جسد المرأة ... الشاعرة مليكة مزان بتاريخ 2-12-2006 ، مما جعل جل خربشاته افتراء ولغوا ومبالغة عمياء خارج عن أية قيم فكرية أو أدبية يؤطرها الكبت الجنسي أكثر من شيء أخر .. كونه أخطأ الفهم لا سيما وأنه غير ملم بالقاموس الأمازيغي وبجهازه المفاهيمي الذي يؤطر مرجعية كل كتابات الشاعرة مليكة مزان التي ظلت تكتب بالعقل والقلب ... ، وليس بالجسد كما اعتقد صاحب المقال ، وهو تحليل لا يتجاوز الكبت العروبي وقمعه للمرأة التي دفنها وهي حية ... وظلت عند المشارقة مجرد متعة وعورة ...

وهذا ما كان يتنافى مع القيم الأمازيغية حيث أن المرأة سيرت الشؤون السياسية والاجتماعية ... أمثال ديهيا وبويا وزينب النفزاوية ... وظلت في بلاد تامازغا سيدة القوم في شتى المجالات والشعر خصوصا بحيث هي التي تحملت مسؤولية هذا المجال أكثر من الرجل ، وهذا شيء مخالف تماما لما هو سائد في المشرق ولها الشرف الرفيع في تكريس هذا الفن الجميل .

في ديوانها ’’ متمردا يمر نهدك من هنا ’’ نلمس احتراق الشاعرة من البطش الذي جاء شرا على المنطقة خصوصا من طرف عقبة الذي صنع المجازر والهتك وساق نساء الأمازيغ كما تساق البعير للنحر ( انظر بن عذاري ، ص : 16-24-51-52 ) ، وكانوا لا يرون فيهن غير النهود والاغتصاب ... ( انظر رسالة هشام بن عبد الملك لواليه على إفريقيا ... الذي يطلب منه جواري للجنس والمتعة .

وفعلا هذا ما حدث كما يشير محمود إسماعيل والبكري وبن عبد الحكم في فتح إفريقية والأندلس . والشاعرة حاولت أن ترمز لهدا البطش والاغتصاب في نص شعري بالنهد كعضو جسدي عند الأمازيغ وكعضو جنسي عند العرب إبان فترة الغزو ومع نشوء الدولة الأموية العسكرية التي كانت تطلب من الأمازيغ دفع بناتهن وبيعهن عند عجزهم عن تأدية الجزية خصوصا كما تحكي المصادر التاريخية أهل لواتة بتونس ...

من هذا المنطلق كانت الشاعرة تكتب ضد الجور والظلم وتبكي بنهدها وعلى نهدها الجريح بحثا عن صورة واقعية وليس خيالية محاولة منها تقريبنا من تأريخ مغمور في ردهات التهميش .

لكن صاحب المقال السالف الذكر ضل الطريق بعدم اطلاعه على السياق السياسي والخصوصيات التاريخية التي تشتغل عليها الشاعرة مليكة مزان وكونه ينطلق من عقلية عروبية منغلقة ومتزمتة اعتبر ولأول وهلة كتابات الشاعرة التي تأوي سيميولوجية النهد الجريح كنوع من الشبقية وسلوكات إيروتيكية علما أن جل نصوص الديوان لا تمت صلة بشيء اسمه الجنس أو البورنوگراف ، بل غياب المعطيات التي تشتغل عليها الشاعرة عند الناقد هو ما دفعه لقول ما لا تقله الكاتبة بالمطلق ولم تشر إليه بالبت مما جعله يسلك درب التأويل بعقلية غير متفتحة أو شاعرية وأحس بالاستفزاز بمجرد سماعه كلمة نهد وهذا قمة التخلف .

إن النهد سيميولوجيا عند الأمازيغ يفيد ويؤكد الخصوبة .. الأمومة .. الثراء .. الإنسانية ، لأن كما تحكي المصادر التاريخية حينما أرادت ديهيا الملكة الأمازيغية تبني أحد الأشخاص الذين أسرتهم في الحرب لفت دقيق الشعير على نهدها ودعت أبناءها والأسير ليأكلوا معا ... أي أنها من خلال النهد حاولت أن تكرس المعاملات الإنسانية والثقافية .

والنهد عند الأمازيغ منذ القديم شكل الوعاء الحضاري ... وليس النهد عندها جنس وغريزة ... كما اعتقد علي الإمارة الناقد الذي أساء فهم الأمازيغية مليكة مزان البريئة من كل الشبهات التي أثارها الكاتب وهو جاهل لخصوصيات الأمازيغ وبالضبط مستوى المرأة كعنصر فاعل وحاضر بقوة وتسمى ’’ تامغارت ’’ أي كبيرة القوم .

لذا فالنصوص الشعرية التي نحن بصددها بعيدة عن الميوعة والإباحية وتلك لا يراها سوى الرجل المكبوت الذي لا يقر بالمرأة كإنسا ن أولا ، وكشريك ثانيا .

ولولا النهد لما اكتسبنا المناعة ضد الأمراض الفتاكة ، ولا وجدنا ما نسد به رمق الجوع أثناء الحروب والمجاعة ونحن صغار .
من هنا كان توظيف كلمة نهد لتناول مجموع الحقائق التي لم يأت عليها أقلام الباحثين ونحن على علم بما جرى في مجال السبي والغنائم خصوصا في ولاية موسى بن نصير وحسان بن النعمان وعقبة بن نافع .

والشاعرة لا يهمها أكثر من البحث عن التراث والتطرق له بنظرة شعرية قريبة من الواقع وغير غارقة في الخيال مستحضرة كل أشكال العهر العربي ، كما تقول ، والتخريب الذي فوت علينا فرصا ضائعة ، فكم من نساء بيعت في المشرق بألفي دينار كما يحكي المؤرخون ومثل نساء برغواطة لم ير مثلهن قط مما صاحت معه محتجة :

’’ كعادته
سيكتفي النهد بصدمته ’’

صدمة تحوله إلى جريح بالعنف المستشري بالاغتصاب الجماعي الذي تعرضت له كل مناطق تامازغا وبدون استثناء وقد تعمدت الشاعرة كلمة النهد من خلال النص كبيان حقيقة ، لكن من الصعب استيعابه ونحن كلنا جهل بتاريخ شمال إفريقيا كما وقع للناقد علي الامارة ، وفعلا :

’’ وما تبرأ الرب ...
من كل عاهري الشرق ... ’’

باعتبار ما مورس من هتك العرض يستحق المساءلة عاجلا أو آجلا :

’’ فماذا عنك أيها النهدُ
وأنت بغير جراح الأمازيغ ..
لا تعودُ ،
بغير اكتئاب الحب ؟؟؟ ’’

كيف لا تكتئب ولا تحزن وهي مثخنة بالجراح والأورام :

’’ رب نهد لنشوة السكر ِ
إلا نهدي الأطلس المر
كيف السبيل إلي ؟ ’’

***

’’ رب نهد لزينة الصباح
ِونهدي لأمازيغ الجراح ِ
وكفر كثيف ’’

إنها المرارة التي تلعقها الشاعرة من جراء الويلات وتعسفات ولاة المشرق ، فإن كان النهد سكر ونشوة وزينة الصباح فإن الأمازيغية محرومة من كل هذا بسبب عنف الولاة ووحشيتهم التي تركت البلاد تدمع وتدمي بلا انقطاع .

ضدا على هذا الطمس والغبن تبكي الشاعرة وتستغيث وتتخيل كأنها تعيش تلك اللحظات الجهنمية زمن الغزو العربي حين أبقرت النساء وقطعت نهودهن حيث بنو سليم وبنوهلال والفاطميون يرجعون الأماكن التي مروا منها إلى البداوة كما يقول بعض المؤرخين حيث أحرقوا المكتبات وسبوا النساء لأن المرأة كانت لا يرون فيها غير النهد .

من هنا كان جسد الشاعرة يعوي من كثرة الوحشية والبداوة والتخلف والقهر ...

تلك إذن تيمة النص الملتزم عند الشاعرة الأمازيغية الباحثة عن الكبرياء التاريخي لا عن شهرة أو مال لكن من لم يتمعن في النصوص من الصعب أن يستوعب المضمون فإلى كل من يسيء فهم التاريخ الأمازيغي نقول :

إن ما تفعله الشاعرة مليكة مزان في احتراق توهجها الشعري هو محاولة إضاءة قدر الإمكان التاريخ الملتبس والغامض حتى تتمكن من قراءته جل الشعوب سيما وأننا نعيش زمن الانفتاح .

إن الشاعرة تقارع الأحداث بدون صوفية كي توضح من تكون من خلال جدلية التراث والهوية ، مناضلة أو مسومة متواطئة أم محتجة وغاضبة ...

إنها المرأة / الشاعرة التي لا تجامل ولا تتملق من أجل مصلحة ضيقة أو فردية ... ولا يشغل بالها غير العمل الجماعي وما هو أهم وفي مستوى القضية ، فهي لا تكتب عن ذاتها كونها ترفض الأنانية والمواقف الأحادية .هي تصرخ من أجل السلم والسلام حتى يهدأ الجسد ولا يعوي ...

وكتاباتها تحسر على تاريخ عريق وحزن على أرض شريفة وجميلة جمال نساء تامازغا ... ولهمها التاريخي ونضالها القوي انخرطت متواضعة من أجل عالم غير موبوء بلا عنف ولا قمع ولا اغتصاب هي ذي الشاعرة مليكة مزان الإنسانة المتواضعة بكبرياء التاريخ مليكة المتأففة المتعففة بأعراف الأطلس وأزيلال فتمتطي صهوة القصيدة متحدية كل أشكال المنع والمضايقات التي تصادفها في كل وقت ومكان ، مما جعلها تكتب وهي غاضبة غير راضية على ما ألحق بتراثها وروافد حضارتها :

’’ هل رأيتم جسدا
في مثل اشتهائي
أو مثل انكساري
أو مثل اكتئابي ؟؟؟
ذاك ظلي وكثير من غضب ’’

ونحن نلمس تيمات النص التي تؤطرها مرجعية تراثية بشكل مغضوب تحسرا على ما لحق إنسانية الأمازيغ ، والنص في بعده التاريخي التزام قبل كل شي ، ولا نلمس فيه إطلاقا ما ذهب إليه الناقد علي الإمارة في موقع الهدف ولم نتطرق للرد عليه بالتفصيل لأننا لا يعنينا السب والقذف لأنه سلوك غير أدبي وأخلاقي ، وما يشغل بالنا هو الهم التاريخي للتوضيح والإقناع ، لأننا أهل العقل والضمير والحداثة في شتى سلوكاتنا ، ويبقى النقد والنقد الذاتي أساس كل ممارسة ديمقراطية للتكفير عن أخطائنا التاريخية ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد أسويق : شاعر وباحث أمازيغي
الحسيمة : 11 / 12 / 2006