الخميس، مارس 27، 2008

عبد الستار نور علي * : الشاعرة الأمازيغية مليكة مزان بين العشق والبركان ..

’’ أكَتبتُ القصيدة َ ..
أم لم أكتبْها ..
شهريارُ .. لا بد .. قاتلي ؛
فلأكتبِ .. القصيدة ْ !
***يا شهريار ُ ..
لك أرقك َ ،
لي أرقي ..
أما القصيدة ُ .. فهي لي ! ’’

( من قصيدة : شهرزادي ليست للقتل )

سواء أتكلمتُ أم لم أتكلم فإن شهريار لا بد قاتلي ، فلأتحدى إذن ولأتكلمْ ...!

هذه الصرخة التي تطلقها الشاعرة الأمازيغية مليكة مزان من المغرب تحيلنا إلى سجل التاريخ في كل زمان ومكان . هذا السجل الذي تختبئ في طياته روايات الذبح والسيف والسلطان الجائر الذي لا يوقفه شيء ولا يقف عند حد دون نيل نزواته ورغباته المريضة في السيطرة والتحكم والاستغلال والظلم والبطش والاغتصاب وكم الأفواه .

تمسك الشاعرة هنا بمهارة مفتاح باب الهواء المطل على فضاء النور والتحرر من سطوة الكبت وكم اللسان . إنه الكلام المباح في صدرها المتفجر بأهم سلاح ، هو الكلمة الشعر . ألم يكن الشعراء أبداً هم الصوت المدوي الذي يفتح مغاليق العيون على طريق الحقيقة ؟

لقد أدركت شاعرتنا المبدعة بموهبتها وبحسها الخلاق وتنبؤها البعيد وعشقها لأرضها، أرضها أرقها الدائم كالظل يتبعها أينما حلت وارتحلت، أدركت أن الكلمة بركان يتفجر في وجه الديجور الذي يلف الأرض والإنسان ويغشى بسدوله ضياء النهار أمام قافلة الركب المتطلع صوب تحرير التراب من الغصب والاغتصاب . وشهريار الملك الذباح الذي يسبي ويغتصب ويقتل مثال نابض صارخ .

لقد دلت موهبة الشاعرة مزان وقدرتها التخييلية النافذة إلى استنباط المثال الصورة لمضمون القصيدة التي تريد من خلالها إيصال قضيتها وإيماءاتها وصرخاتها وبراكينها التي تتفجر بالعشق إلى القارئ الواعي وإلى العالم . فالكلمة الصادقة النابضة المتفجرة بالحقيقة هي المحرك وهي الدافع وهي الإشراق لكل ما يجول في صدر الشاعر أياً كانت قضيته. والشعر هو الكلمة التي تحرر ما في روح الشاعر من إرهاصات مخنوقة بفعل الهواء الفاسد الخانق بقضبانه لنافذة القلب :

’’ لو فجرتُ القصيدة َ ..
لتحررتُ مقدارَ .. قرية وحانة ’’

( من قصيدة : أمي يعجبها عشق الغرباء )

أهمية القصيدة عند مليكة مزان تكمن في أنها الباب الذي ينفتح أمام النفس لتتحرر من قيودها . وهي في إبداعها وخلقها الفني انفجار ، وليست مخملاً يلامس الجسد المترف ليثير فيه نشوة البهجة البشرية الزائلة ، وإنما تفجير للنفس والوجدان .

وإثباتاً لهذه الأهمية تشـير في قصيدتها (شهرزادي ليست للقتل) وفي المقطع الذي ذكرناه في مقدمة الموضوع إلى أنها تختار القصيدة في كل حال صرخة مدوية في وجه شهريار. وتتمثل الشاعرة في تصويرها بشهرزاد الأنثى رمزاً للأرض التي يقع عليها الظلم وتتعرض للاغتصاب مثلما المرأة . فالأنثى هنا رمز للعشق/الأرض ، لأن الأرض أم الإنسان الأولى . هي التي تلده وترضعه وتنشئه وتكبره وتمنحه خيراتها ليصلب عوده ، لذا نقول عند الكلام والإشارة إلى المكان "أمنا الأرض" تعبيراً عن عمق الصلة العضوية المتجذرة في كيان الإنسان بأرضه.

ومن هذا النبع انساب العشق الصافي في نفس الإنسان لترابه ليغدو غالياً مثل الحبيبة والحبيب ، فانطلق الكثير من الشعراء محلقين عالياً في التغزل بالأرض حبيبة ً وعشيقة ً مخلصين لها الود والوفاء والتضحية ، وخاصة عند شعراء الأراضي والأوطان المغتصبة والمحتلة ، والشعراء الفلسطينيون خير مثال.

إن هذا الربط هو أقصى حالات التعبير عن حب الأرض والتعلق بها والتشبث بترابها حد التضحية بالنفس عن طيب خاطر. فكما يعشق الإنسان فيكتوي بنار الوجد والشوق والحرمان ومقارعة الموانع والخطوب والوقوف في وجه العالم من أجل حبيبته أو حبيبها ونشوة الوصال عند الرضا ، يعشق الوطن كذلك بنفس العاطفة السامية التي منحها الله للبشر :

’’ وأراني أسابقُ ..
كل نزف إلى بلسمه ِ ،
كل كأس إلى خمرتهِ ،
وأذبحني .. تقرباً من ربيع كفيه ْ !

***

أعترفُ أنه الدينُ :
في ظلهِ ..
نبت نهديَ المجنون ُ ..
ونشوتي اتسعت أكثرْ ..
لكل المقيمين بجسدي ؛
والآن .. لا تراجع َ عنهُ ! ’’

( من قصيدة : نعم أحبه وماذا بعد ؟! )

الأرض عند مليكة مزان عشق متأصل في ذاتها حد النزف ، وحد التفجر في وجه الاغتصاب بركاناً من التمرد الواعي لحقيقة أن الرفض للاستسلام هو طريق مؤهل لمسيرة الهدف المنشود في نفسها المتأججة بحب يسمو على كل حب آخر.
إن مزان تحترق وهي الشـاهدة على القتل والتدنيس والتهميش. صرختها الاحتجاجية وتفجرها البركان ليسا شاهدين ذاتيين ينصرفان الى هم انفرادي ، إنما صرخة في وجه التعسف والاغتصاب ، وتحدٍ لكل قطاع الطرق الذين يتلذذون بسرقة أراضي وأوطان الغير ، وطمس حقوقهم ، والعمل على تغييب هويتهم وتشكيل وجوههم ولون أجسادهم وفق مقاييس التزوير :

’’ ــ انحناءة ٌ ..
من .. نهدي ..
لعاشق ٍ .. عاهر ٍ ؟!
ــ لا … !

***

’’ ـ تنازلٌ ..
عن .. رقصي ..
لقطاع الطرق ِ ؟!
ــ لا … ! ’’

( من قصيدة : وجهي لا تسقطه الصفعات )

تتوغل مليكة مزان بشعرها / البركان في تفاصيل الأرض ، لتنطق باسمها في حوارية درامية تتميز بها ، وتستخدمها بتملك مقتدر متمكن من أدواته نضجاً فنياً خلاقاً ، لتنقلنا معها على حمم عواطفها المتأصلة بترابها لتصرخ باسـم من تعشق في وجه المغتصب تعبيراً عن التجربة الأليمة وسط أمواج التأجج :

’’ وجهي ..
لا .. تسقطه ُ الصفعاتُ ،
قصائدي ..
فؤوس .. اقتلاعْ ،
رقصاتي ..
مضمونة ُ المقاصلْ ! ’’

( من قصيدة : وجهي لا تسقطه الصفعات )

وجهي أنا هويتي ترابي لا تسقطه صفعات قطاع الطرق ولا المغتصبين المدججين بسلاح العنف والقوة والقتل المجاني . أنا الأنثى/الأرض عصية على الاقتحام مهما كانت الصفعات قاسية رهيبة الوقع ، شـديدة البطش . إني لست هينة على الاستسـلام والخنوع ، سأصرخ من أعماقي قصائد بركاناً ، فؤوساً على رؤوس الغاصبين ، اقتلاعاً لكل الأشواك والرماح التي تستكلب كي تغرز سنانها في جسدي ، سأطلق صرختي ومقاومتي رغم المقاصل المنصوبة ، والمشانق المرفوعة ، والسجون الغاصة بالرافضين المقارعين .

هنا تبين لنا الشاعرة بمهارة أهمية الكلمة في المنافحة والمكافحة والنضال الدؤوب. فللقصيدة بركانها الذي يهز عروش السلاطين وغلمانهم ، وهي سلاح لا يقل مضاءاً من السيف . ولذا كانت العرب تحتفي بشعرائها لأنه صوت القبيلة ، لكن القبيلة سرعان ما حولت الشعر إلى سلاح مضاد في الطعن والقدح والإسقاط .

مليكة مزان تعيد للشعر دوره الفاعل في وجه الآفات البشـرية وصناع القبح والبطش والظلم . وهي بذلك تخرج من أسر طغيان قصيدة الفكر اللغز والتصوف التهويمات من الذي يطلق عليه اسم الشعر الإنساني المطلق ، فتعيد بذلك للقصيدة أهميتها في التفجير الإنساني الإيجابي لمعضلات المعاناة البشرية في بقاع كثيرة من العالم المعرض للظلم على مساحات واسعة من الخارطة الإنسانية الوطنية ، مما يجعل التوق الأول للإنسان هو الحرية بمعناها الانعتاقي الشامل من قيد الاضطهاد والتهميش والاغتصاب ومن الحق في التعبير الحر عن الإرادة :

’’ أنينُ الشتاتِِ ،
وربيعُكَ المسفوكُ أريجُه ُ ..
عند حجر الطغاة ِ ،
وأنت لاهٍ عن وجع الأرض ِ ؛
يبشر بك التيهُ .. بقايا ،
وأقولُ :
الآن عذابي أقلﱡ ،
وبركاني .. مضمونُ القصيدة ِ والشعار ِ !’’

( من قصيدة : هل تفيد العهارة شيئاً ؟! )

’’ القصيدة ُ من أجلها ..
صلاتي ،
واحتراقي ألغى حدود الشمس ْ ،
لا بأس ْ :
السفر عبر جليدكَ ..
استرداد لمجرى النهر ِ ..
وأريج الزهر ِ ..
وصلاة مقبولة من عصافير الوطن ْ ! ’’

( من قصيدة : احتجاج )

إن الهم الإنساني الأكبر عند الشاعرة المبدعة /البركان مليكة مزان هو العشق بمعناه الأوسع الأشمل الذي يتخطى الذات بمعناها الأناني إلى ذات أكبر هو الوطن بفضائه الشمولي لكل معاني الوجود للإنسان الفرد والجمع ، في توحد وجودي يعطي الشكل الأكبر واللون الأبهى للذات الفردية حين تثبت هويتها أمام العالم.

مليكة مزان هي العشق الفضاء الممتزج كلياً بالأرض حد الوله والتوتر الايجابي بمعناه المتفاعل مع الحدث والتجربة بإطارهما الواعي المنفعل بمجريات التاريخ وبعنفوان شديد التفجر متجاوزاً حدود المألوف إلى التمرد الطاغي. فالأرض هي الحبيب ، والأليف ، والعريس الذي تحلم به كي تتزوجه وتتحنى به عن طيب خاطر وفرح روحي يتخطى السكر /النشوة الآنية إلى السكر / البهجة السرمدية الخالدة بخلود الأرض ، والمتحدية لكل الحواجز والقيم ومذابح الجنس البشري المريض للعلاقة الحميمية بين الإنسان وقضيته الكبرى وهي حرية الوطن :

’’عصفورَ إيابٍ ..
إذ يتحرش بي ..
أعانقه عرساً ،
أردده سُكراً :
وأتحدى … وأشدُو :
نعم أحبه ُ وماذا بعدْ ؟! ’’

( من قصيدة : نعم أحبه وماذا بعد ؟! )

في مسيرة الشاعرة الأمازيغية الفنية يلتقي القارئ بحمم ونيران وتفجرات مشاعرها وتمردها اللامحدود بحدود اللغة المنتقاة بعناية الصائغ الأليف الوديع المتمسك برداء اللاعنف وبالمضمون غير الاقتحامي المتحدي لمألوف العلاقات. كما يلامس ألق هذه الأحاسيس في استخراج كل ما في داخل المتلقي من مواطن المعايشة الفاعلة مع تجربة الشاعرة وإثارة مكامن الغضب والتحدي المتراكم المحبوس في داخلها، ليذوب معها في بركانها المتفجر كلماتٍ وصوراً ومشاعرَ حقيقية حارة لعشقها الخالد وتوحدها الموجود بتراب الوطن ، وذلك من خلال القصيدة /الضربة ، والصورة /الصدمة لخلق الأجواء لتوتر المتلقي ومعايشته وانفعاله .

نجحت الشاعرة مليكة مزان في تشغيل عنصر الدراما الفنية بتألق متميز ودراية نافذة لهذا الفن ، لخدمة الأفق الذي تريد إيصالنا إليه لنكتشف العوالم التي تضعنا في أجوائها. حيث إن الدراما ومن خلال الحوار بين الشخصيات ودواخلها خلف كواليس القصيدة تضع القارئ أمام مرآة روح التجربة بلا فضفاض من الصور أو شوائب من التعابير أو زوائد من البلاغة اللغوية المصاغة في التواءات لخلق أكبر قدر من الصور المهفهفة ، فتكون عبأ على القصيدة وثقلاً مملاً على ذائقة القارئ . فنجاح شاعرتنا يكمن في هذا الاستخدام الذكي وهذا الاختزال والتكثيف البارعين :

’’ هل قلتَ :
أتحاشى القصيدة َ والبركانَ ؟!
هل قلت َ :
أتركُ سربَ الحمام لتيههِ ،
دمَ الناياتِ .. لخفافيش ِ الظلام ِ...؟! ’’

( من قصيدة : هل تفيد العهارة شيئاً ؟! )

’’ يا عصافيرهُ ، قولي :
هل أجرمت ُ… ؟!
يا عصافيره ُ ، قولي :
هل أ ُعدَم في آخر الغناء ْ ؟!
تعالي ْ ،
يا عصافيره ُ ،
تعالي ْ ..
نعزفه .. بأقصى القتل ْ ! ’’

( من قصيدة : تلك سلطتكَ في دمي )

والهاء ضمير الغائب في (عصافيره) إشـارة إلى الوطن الذي تعشـقه بهوس حار وانفعال يمتزج بالتمرد على الواقع بكل ما فيه من خدر العلاقات والتجاذبات وسكون المشاعر المرتاحة إلى ما هي عليه والمستأنسة بما هي فيه.

وطنها في جبال الأطلس حيث ولدت في قرية من قراها ، فتشربت دفء الأرض وعطاءها وحلم الطفولة الغضة وجمال السماء المعبدة بنجوم الأحلام التي صبت إليها نفسها ، لكنها تجد مرساها في أرض أخرى في فرنسا حيث تقيم في مدينة ليون بحثاً في حياة تجهلها ، غربة وانتظار وحلم تأمل في ملامسته يوماً عن قرب . لكن الأرض الجديدة منحتها حرية كانت ترنو إليها حلماً وسط قيود كبلتها عن الانطلاق في فضاء الحرية والتعبير دون حدود تراها مثقلة لما في داخلها.

لذا أوقفت صوتها من خلال موهبة الكتابة لكل ما تؤمن به وتحسه يضطرب في نفسها ضاغطاً ثقيلاً . فانطلقت تقول وتصرخ بعنفوان الثائر واحتجاج الباحث عن الخلاص والرافض الذي يدين كل تواطؤ في خيانة الأرض وذبحها عهراً وعاراً أبدياً . وهو دلالة على عنفوان عشقها وعمق التحامها بالوطن وترابه :

’’ هل قلتَ … ؟!
بل قلتُ :
غزالة أطلس ٍ .. ترفض نهدَها ..
غنيمةً للطغاة ِ ،
أم هل يحل التواطؤ ُ ..
في آخر الذبح ِ ،
أم هل تفيد العهارة شيئاً ..
حين يخون الوطنُ ..
شماتة ً.. بقصائد الرفضْ ؟! ’’

( من قصيدة : هل تفيد العهارة شيئاً ؟! )

’’ من عينيه ِ ..
تتناسل الشمسُ ..
أقواسَ قزح ٍ وألعابَ طفولة ْ ؛
من مروره بثغري ..
يزهر صدري ..
أَحيدوسَ * أعال ٍ ،
أَحواش َ * صحار ٍ ،
انتشاءَ .. بحر ومحيط ْ ! ’’

( من قصيدة : نعم أحبه وماذا بعد ؟! )

( *أحيدوس وأحواش : اسمان أمازيغيان لفنون فولكلورية بالأطلس المتوسط ومنطقة سوس بالمغرب . )

الحواريات الدرامية التي يمتاز بها شعر مليكة مزان مع المشاهد واللوحات التي ترسمها ببركان كلماتها ومشاعرها الحارة تلقي بنا في أتون عشقها المدمى وجرحها/الوطن وعنفوان قصائدها التي تمتاز بقصرها وتكثيفها الصوري وتركيزها البلاغي بالمألوف من الكلمات ، والسهل الممتنع من التعابير والصور المتواترة ، بتلاحم ملحوظ يقربها من الملاحم لكثرة الأحداث المتشابكة خلف اللوحات المشبعة بطول النفس . وهو عنصر أساس من عناصر الدراما الملحمية. والملحمة ليست بالضرورة تتابع أحداث الحرب والقتال والصراعات ، إنما رواية وتسلسل صراعات النفس البشرية المتلاحمة مع الصراعات التاريخية والذاكرة المستقرئة السائحة في مدارج الماضي والحاضر المتأزمين بأسلحة الظلم والعدوان والغصب ، واستخراج كل ذلك في تتابع ملحمي مشاعري ممزوج بالصراع الداخلي المتلاطم مثل صراعات الملاحم الكبرى . فقصائدها متلاحمة المضمون ، متوحدة الأحاسيس ، حبكتها العشـق ، ولحمتها حب الأرض والتاريخ . علينا أن نقرأها مشدودة لبعضها البعض في تسلسل سياقي ووحدة موضوعية ملحمية درامية واحدة دون انفصال أو تجزيء .

تمتاز قصائد مليكة مزان بالاستفزازية الصدامية المتفجرة بالمعاني والصور المصاغة بالعشق الجرح/الوطن . إنها تجر المتلقي إلى الوقوع في شعاب عالمها المليء بإرهاصات النفس العامرة بحب خالد بخلود الإنسان والأرض ، هو حب الوطن حد الذوبان في ذرات ترابه ، والتوحد بأحلامه وآماله وآلامه وجراحه والطعنات التي تنشب مخالب الاغتصاب في جسده .

وشاعرتنا في كل هذه المواجيد تنجح بامتياز من خلال تشغيل وتطويع الموهبة الشعرية والبراعة الخلاقة بتأن ووعي لخدمة العملية الشعرية ومضامينها من أجل إيصال ما تريد بإثارة دهشة المتلقي بالصدمة الشعورية لتحقيق الهدف. وقد عرفت كيف يكون لها تحقيق ذلك ، بإلقاء حمم بركانها الشعري تفجراً يثير مكامن التفاعل عند الآخرين مع قضيتها بواسطة قصائد لا تطول حتى لا يمل القارئ ، وتكثيف مركز المعنى ، وبلاغة سهلة ممتنعة بعيدة عن التزويق والتلغيز الذي يغمض على المتلقي فيغيب المعنى ويسقط الجهد الإبداعي في خلق النص البارع .

المتابع لقصائد مزان يلاحظ ورود كلمة البركان وأصداء التفجر والعنفوان والتحدي والاحتجاج والعنف الهجومي، وكذلك التأكيد على أهمية القصيدة ، وإصرارها على التمسك بها سلاحاً واحتجاجاً في وجه الطغيان والاغتصاب . ولذا فهي بحق (مليكة البركان الشعري) المتدفق بالحمم حسياً ولغوياً وحياتياً . وهو ما يمنحها صوتها الخاص المتميز وسط الكم الهائل من الأصوات الشعرية المتداخلة في بعضها بحيث تغيب الأصوات في بعضها فلا تعرف زيدَها من عُبيدها.

إن لشاعرتنا المبدعة بحق قامتها الشعرية الخاصة الواقفة بصلابة في مملكة الشعر الواسعة الفضاء ، الفسيحة الأرجاء ، بحيث يمكننا حين نلتقي بقصيدة لها ، وقبل أن نعرف من كاتب القصيدة ، أن نقول هاهي مليكة مزان مليكة البركان الشعري. وهنا مكمن نجاح المبدع حين يكون له صوته الخاص المميز عن الآخرين :

’’ يا ويل رقصاتي ..
إذ يفجر الرعب أعضاءها اللقيطة ََ ..
من ترنحي الموعود ِ ..
على جسد الهشاشة ِ ،
وما راكمت ُ ..
من .. قيح ٍ ،
ومن .. براكين َ ..
في .. ذاكرة الكبد ِ !
يا ويل رقصاتي ،
يا ويلها ،
يا ويلي ! ’’

( من قصيدة : سأوغل في الرقص وويله جسدي ! )

وفي كل ما كتبت وتكتب مليكة مزان وكل ما تفجره من براكين نرى الأرض واقفة بصلابة وإباء ورفض وانتصاب قامة وعصيان على الاستسلام والخضوع ، نراها خلف مضامين ملاحمها الطقوسية الدرامية في العشق/الوطن والشعر/البركان. إنها جسد ذائب في جسد الوطن متفجر في ذراته ، عشق منحوت بالأداء الروحي الحار المتدفق :

’’ حين انتبهتُ .. وعَدْتُ … :
إما أن أمارس الحب في السياسةِ ،
والسياسة َ في الحبْ ..
أوْ .. لا .. أحبْ !

***

وها أنا .. أحبْ ..
وها أنا .. تقودني إليكَ القصائدُ ..
من كل المصانع والحقولْ ،
خلفي العصافيرُ ،
ينابيع الوطن والفصولْ ،
وخلفنا ..
قلبي ،
صلاتي ،
ارتعاشي ،
رقصاتي التي اشتهيتَ ،
التي أضعت َ ...
وعدت َ خالي الوفاض ْ ! ’’

( من قصيدة : انتقاماً للحب )

’’ وأعزفك َ للريح ِ ..
لا أبالي بالصمم ِ ،
أعزفكَ فقط لأنك لغتي ،
أعزفك فكن لغتي ..
حتى انفراج آخر ْ ! ’’

( من قصيدة : تلك سلطتك في دمي )

ــــــــــــ

*عبد الستار نور علي : شاعر وناقد ومترجم كردي يعيش بالمهجر