الأربعاء، مارس 26، 2008

مليكة مزان : قبل أن أكون زوجة مسؤول ديبلوماسي مغربي...


(حوار أجرته الإعلامية المغربية أمينة كوندي لصالح جريدة "الصباح" المغربية)

نص الحوار:

ـ س: الأستاذة مليكة ، لماذا اخترت الشعر وسيلة للتعبير من دون الأجناس الفنية  الأخرى؟

ـ ج: بدءاً أليس صموداً جميلا أن يتشبث المرء بالقصيدة، يخاطب بلغتها الخاصة هذا العالم وفظاعاته في زمن معروف عنه بامتياز أنه زمن الانتصار لكل عنف وظلم وقبح؟!

كل الأجناس الأدبية تحاول، بما يميز كلاً منها من تقنيات التعبير، أن توصل خطاب الحلم والمحبة لتبقى لميولات كل مبدع الكلمة الأخيرة في الاطمئنان لهذا الجنس الأدبي أو ذاك. شخصياً إن تجربة الاغتراب التي عشتها لم تكن لتستدعي لدي من الأجناس التعبيرية الأخرى مثلما استدعت الشعر باعتباره غناء في الألم والموت. ذاك أن الاغتراب تجربة فيها كثير من الإحساس بالألم كما أنها مناسبة لتذوق كل أشكال الموت الروحي منها والفيزيقي.

إن الشعر يفرض نفسه كلما تعلق الأمر بمحنة إنسانية ما فردية كانت أم جماعية، وهو أصدق من أي جنس أدبي آخر في التأريخ لها، بل هو أصدق من التاريخ نفسه كما يرى أرسطو. وأعتقد أني في مدينة جنيف السويسرية كنت بصدد التأريخ للحظة كونية متميزة لم أجد غير القصيدة أهمس لها بكثافتها ومرارتها وأضمنها كل تفاعلات الذات معها، لحظة أربكت الروح ودفعتها إلى مراجعة رصيدها من القدرة على الحب والصمود والوفاء لكل القيم التي تؤمن بها.

ـ س: هل تعتقدين أن الشعر أدى رسالتك الإبداعية التي تودين إبلاغها؟

ـ ج: أغلب الفلاسفة ينصحون بالشعر عندما يتعلق الأمر بمحنة إنسانية لها صبغة الديمومة، وما ذلك إلا لثقتهم في حسن أداء الشعر وفي سعة لغته وجماليته لكل آلام الإنسانية وأحلامها.

وأرى أن إحساس الإنسان بالاغتراب والضياع والبؤس حيثما تواجد يعتبر محنة حقيقية. وقد حاولت في كتاباتي في هذه المرحلة من تجربتي الشعرية أن أتفرغ لفضح هذا الإحساس ومقاومة ذاك الوضع، مؤمنة أن القصيدة قادرة على إبلاغ هذه الرسالة، خاصة وأني حرصت على أن تأتي صادقة عميقة.

لكن يبقى محك نجاح القصيدة الفعلي هو في مدى تجاوب المتلقي وتفهمه لنبل أهدافها وتواطئه معها ذاك التواطؤ الجميل والضروري من أجل أن تتحول رؤاها إلى عالم مضيء من الحب يتسع دفؤه للجميع.

سينجح الشعر في إيصال رسالتي الإبداعية حين تتخذ إجراءات فعلية للحد من هجرة ثروتنا الحقيقية/شبابنا هذا المصدوم في وطنه قبل أن تصدمه المنافي.

سينجح الشعر حين أصادف مغاربة يرفضون كل الإغراءات المادية للحضارة الغربية ويلزمون أرضهم، يخدمونها في محبة وإخلاص وتحد جميل. فكم كنت أصدم كلما عدت إلى أرض الوطن ولاحظت لدى الأغلبية منا رجالا ونساء، أطفالا وشبابا، موظفين وعاطلين، هذه الرغبة المجنونة في الهجرة وبأي ثمن، رغبة تسيء إلينا جميعاً في الوقت الذي نرى الآخرين يتشبثون بأوطانهم، يطورونها من الداخل كل بمجهوده الشخصي وإمكانياته المتواضعة.

إنه حقاً لوضع مؤسف أن تنتهي بنا الأوضاع إلى هذه الحال، والمؤسف أكثر أن البعض يعترض قائلا: وماذا فعل من أجلنا هذا الوطن؟!

ـ س: ما هي أهم المدارس الشعرية التي استفدت منها في بناء تصور لتجربتك الشعرية؟ ثم ما هي الانتقادات التي دفعتك إلى الأمام؟

ـ ج: لو أننا طالبنا كل مبدع أن ينطلق بالضرورة من مدرسة أدبية أو فنية ما، محترماً في ذلك اختياراتها، متقيداً بقواعدها وأساليبها، لما كان هناك أصلاً أي مبدع. إن المبدع الأصيل الحقيقي بل والعبقري، في تصور الفيلسوف الألماني كانط مثلا، هو من يصير مدرسة لغيره، منه يستمدون قواعد الخلق والابتكار.

لا أدعي في تجربتي المتواضعة هذه والتي ما تزال في بدايتها أني انطلقت من فراغ أو وضعت قواعد مدرسة جديدة في الكتابة ـ ولو أن هناك من يرى في هذه التجربة نوعاً من الأصالة والتفرد ـ بل لا بد لي أن أكون، من خلال قراءاتي المختلفة قد خضعت لتأثير نمط معين، ولكني وأنا أكتب لا أستحضر في ذهني أي نمط ولا أي اتجاه. هاجسي الوحيد كان وما يزال أن أعبر عن تجربتي الخاصة بما يكفي من الصدق والعمق، وأن لا تشبه قصيدتي غير عمقي الخاص ونوعية التجربة التي اقتضتها.

لقد كانت لآراء كثير من الذين اطلعوا على كتاباتي أثرها في تشجيعي وتوجيهي. وأنا أتقبل كل الانتقادات وأعمل بما أراه يخدم تجربتي، ولكني أبقى عنيدة في التشبث أحياناً بوجهة نظري، ذلك أني أؤمن بأن الكاتب أدرى بهفواته وأوجه النقص والخلل في تجربته، خصوصاً عندما يتخذ منها مسافة ما، ثم يعود إليها وهو أكثر وعياً بما ينبغي فعله من أجل تطويرها وتجديدها.

ـ س: من رحم المعاناة يولد الإبداع إلا أن حالتك الإبداعية أمر مختلف، كيف تفسرين هذا الاختلاف؟

ـ ج: لا يمكن لتجربتي الإبداعية أن تكون بأي حال مختلفة عن أي تجربة إبداعية أخرى إذا كان منبع الإبداع هو المعاناة، ذلك أن هذه الأخيرة متوفرة في تجربتي بشكل مسبق: فقبل أن أكون، في مدينة جنيف السويسرية، زوجة مسؤول دبلوماسي مغربي كنت وما أزال مواطنة أمازيغية عادية، إلا أنها مواطنة تحمل معها أينما تواجدت هموم الوطن والقارة، وهي هموم مرتبطة بهموم الإنسانية عامة. لذا كنت أراني وباستمرار في كل هؤلاء البشر الذين توافدوا على جنيف من كل أنحاء الأرض، كل وأحلامه ومخاوفه.

حقا لم يكن تواجدي في جنيف هروباً من القهر والفقر كما كان قدر كثير من هؤلاء البشر، ولكن كان من الممكن أن يكون قدري لولا كثير من الحظ، مما جعلني أتعامل مع هؤلاء، سواء على مستوى الكتابة أو من خلال نظرتي إليهم، في غير تعال أو نفور، بل حاولت أن أكون صوتهم جميعاً أصف فعل المدينة فيهم من خلال ما تدهشهم به من تجليات الثراء والحضارة والرقي، وأصفهم فيها وهم غرباء قلقون متوجعون مصدومون في غير مبالاة من نفس المدينة، والتي، رغم ما كانت تقوم به من إجراءات للحد من السلوكات العنصرية ضدهم، ظل واقع الكراهية ورفض الآخرين قائما فيها بشكل صارخ مؤلم.

أخلص إلى أن إقامتي بجنيف لم تكن مناسبة للاسترخاء والمتعة، بل كانت صدمة قوية، ذاك أني كنت أعتقد أن الحياة في جنيف ستكون مختلفة خاصة على المستوى الروحي والإنساني، ولكنها جاءت خلاف توقعاتي، إنها صدمة ألهمتني القصيدة كشكل حضاري سلمي من أشكال الرفض والمقاومة، ولولاها لما كان لتجربتي الشعرية أن تكون، بل تكفي جولة سريعة بين نصوص ديواني الأول ˝جنيف.. التيه الآخر˝ ليتضح جليا أن الكتابة لم تكن ترفا بل حاجة ملحة لتصريف المعاناة، وصلاة ضرورية لإنقاذ الذات من مزيد من الانهيار تحت وطأة التردي، تردي العيش في عالم كان يعلن عن إفلاسه بأكثر من لغة.

ـ س: هل أمر إقامتك بالمهجر أثر في مسارك الإبداعي، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد صدفة؟

ـ ج: خلال تواجدي بالمغرب كانت لي في الكتابة الشعرية محاولات جد خجولة كثيراً ما كان مصيرها سلة المهملات، لذلك أرى أن إقامتي بالمهجر ـ لمدة تسع سنوات ـ كان لها الفضل الكبير في التزامي بالكتابة بشكل منتظم عميق وجاد، وذلك لما وفرته لي من وقت فارغ ومن معاناة نوعية إضافية لاقتراف الكتابة هذه الحماقة الجميلة التي بدت وكأنها حماقة لا بد منها. هذا بالإضافة إلى أن إقامتي هذه بالمهجر كانت قد وضعتني في موقف من يكتشف الآخر عن قرب، وموقف من لم يعد يرى ذاته إلا من خلال لحظة الآخر القوية والفاعلة، وهو موقف صعب ومحرج وجدت الوقت الكافي لتأمله وتتبع آثاره على ما تبقى للذات من إمكانيات الصمود والمقاومة والاعتزاز، مع ما يستدعي ذلك من مقارنات صعبة مؤلمة.

لقد هاجمتني جنيف في صميم قناعاتي، كما استفزتني من خلال تلك المفارقة الصارخة لديها بين تجليات العقل والنظام، ومعالم الذوق والجمال، وبين ما تتسم الحياة فيها من إحساس فظيع ببؤس الروح وغربتها، ولم يكن لي أن أتفاعل مع كل هذا إلا من خلال الكتابة التي لم تكن أبدا بالنسبة لي من قبيل الصدفة، ذلك أنه عندما تجتمع شروط الإبداع لا يمكن للإبداع إلا أن يكون قدَر كل من صدمه الواقع وراوده الحلم.

ـ س: هل استطاعت الشاعرة المغربية أن تفرض ذاتها في الساحة الثقافية كالشعراء الرجال؟

ـ ج: المرأة كائن جميل يتجلى جماله عندي في حرصه على الحياة ودفاعه عنها. هذا الشغف بالحياة تعبر عنه المرأة في كل مساهماتها وعطاءاتها، وعلى الرجل المغربي كلما فاجأته المرأة بإبداع ما أن يتعامل معه بما يشرفه من تفهم وتشجيع وتحضر.

لكننا في بلدنا المغرب تعودنا أن نرفع من شأن الوافدين علينا من خارج حدودنا وثقافتنا وهمومنا، نستضيفهم لنكرمهم ونقترحهم على جمهورنا في تظاهر باهت بالانفتاح والتعاون والتسامح، ولكننا في المقابل نمارس، وبكل ما لدينا من قوة، تجاهلنا شبه القاتل على مبدعينا المحليين وخاصة الناشئين منهم والنساء، وكأننا بصدد تصفية حسابات لا بصدد تنافس شريف، وكم يكون ذلك أشد إيلاما للروح حين يصدر ذلك من الساهرين على الشأن الثقافي أو من المبدعين أنفسهم إزاء بعضهم البعض.

في هذا الجو الذي لا يشجع على الإبداع قليلات هن الشاعرات ـ وأتحدث هنا عن شاعراتنا الملتزمات بالدفاع عن قضايا شعبنا الوطنية الحقيقية وبما يفرضه ذلك الالتزام من جرأة وصمود ـ أقول قليلات هن الشاعرات اللواتي نجحن في تأكيد حضورهن، وإن كن قد وجدن إلى ذلك سبيلا فاعتماداً فقط على إمكانياتهن الذاتية ومجهوداتهن الخاصة إيماناً منهن بضرورة التواجد والمساهمة والعطاء.

شخصياً ومنذ البداية أدركت أني، لإبلاغ رسالتي الإبداعية، علي أن أتجاهل كل الإحباطات، وأن أرفض كل المساومات والتنازلات، وألا أعتمد سوى على إمكانياتي المادية والمعنوية الخاصة، مؤمنة بأن نجاحي يتوقف على ما سأقدمه من أعمال تقنع القارئ وتشده إليها بما تضيفه من جديد جيد ومفيد، ذلك أني لا أرضى لنفسي، كمبدعة تحترم نفسها، أن أكون في الواجهة من غير استحقاق.

لا أريد الاعتراف السهل، كما لا أسعى لسعة الانتشار المجانية، كما لا يهمني أن أبقى في الظل أو أن أتألق تحت الأضواء ذلك أني حين أكتب إنما أكتب من أجل هذا الشعب. والشعوب تعرف كيف تحترم مثقفيها المخلصين. كما أكتب من أجل التاريخ والتاريخ لا محالة منصف، ولو بعد حين. وأكتب فوق هذا وذاك لأن الكتابة فن، والفن كما يرى شوبنهور أداة للتحرر من الألم.

ـ س: هل تعتبرين نفسك شاعرة ملتزمة؟

ـ ج: الشاعر غير الملتزم يمكن له أن يكون أيا شاء إلا أن يكون شاعراً، أما الشاعر الذي يستحق اسمه فأنتِ ـ حتى في أقصى انزوائه وانغلاقه على ذاته وانشغاله بخصوصياته ـ تجدينه شاعرا ملتزما بالضرورة، ذلك أن ذاته جزء من هذا العالم وهو حين يتغنى بذاته يعرف أن لا مفر له من أن يتغنى بها وهي موجودة "في" هذا العالم.

إنه التزام مفروض عليه من أكثر أموره خصوصية وحميمية. هذا بالإضافة إلى أن كل ما يجري في هذا العالم ينضاف بالضرورة إلى رصيد الذات وخبراتها، بل يصير شأنا خاصا بل وتصير الحدود بين العالم والذات شبه غائبة، ولا يجد الشاعر نفسه إلا متورطاً، سواء كفاعل أو كمنفعل، في كل أمر أو حدث. فكما يعيش الشاعر ذاته بشكل موضوعي يعيش الشاعر أيضا العالم بشكل ذاتي، والحال هذه كيف له ألا يكون ملتزماً في كل ما يقوم به أو يعبر عنه؟!

ويبقى أن الالتزام بقضايا الشعب وخدمتها، والدفاع عن الإنسانية حين مرورها بمحنة ما أمر أخلاقي ضروري لكل كاتب يعي دوره ويحترم نفسه، وعدم التزامه بها يعد في نظري خيانة كبرى.

شخصيا ومنذ بداية تجربتي الشعرية وعلى امتدادها وجدتني شاعرة ملتزمة تأخذ على عاتقها مهمة الاحتجاج ضد كل ما يمس كرامة الإنسان المغربي عامة والمهاجر المغترب بشكل خاص. أفعل ذلك ومن دون أي التفات إلى ما يشبه تجاهل الجهات المسؤولة عن الشأن الثقافي داخل الوطن لهذا النوع من الأدب النابع من صدق تجربة خاصة ومرارتها، ذلك الأدب المهجري الذي كان وما يزال يتتبع رحلة الألم والموت منذ أن تخرج إلى ذلك الفردوس الغربي الذي كم يصر على أن يمضي عصيا على كل الأحلام الجنوبية الصغيرة المشروعة.

بل إن الالتزام بالنسبة لي كان وما يزال أمراً بديهياً خاصة إذا ما علم القارئ أني أنحدر من منطقة تادلا ـ أزيلال، وهي منطقة أعتبرها، شخصياً ـ واستناداً على معطيات واقعية ـ عاصمة للهجرة السرية بامتياز ومسقط رأس كثير من ضحايا قوارب الموت المغاربة، فما كان لي أبداً أن أخون هؤلاء في كتاباتي سواء لفظهم البحر قبل القبض على خيوط الحلم، أو عادوا إلينا في توابيت الذل بعد أن يكونوا قد اغتالهم الحقد والميز، أو نجوا وصمدوا ثم عادوا، في رحلة الشتاء والصيف، محملين بكثير من الحب والوفاء لهذا الوطن.

إن الشعوب بخير ما دامت تنجب كُتاباً ملتزمين، وأراني بالتزامي هذا أحب الناس في بلدي بل وفي كل بقعة من الأرض وأسعى من خلال كتاباتي إلى إسعاد ضميري الوطني والإنساني.

ـ س: هل الترجمة في نظرك تفقد النص الأصلي مصداقيته وتحُول دون إيصال رسالة المبدع؟

ـ ج: من المؤسف جداً أن تكون أكثر كتابات الإنسان روحية وجمالية أقلها حظاً في مجال الترجمة الموفقة، ذلك أن الشعر غالباً ما ينفلت من قبضة الترجمة مما يجعل روح النص الأصلي شبه غائبة لتنوب عنها ترجمتها الباهتة فنحرم بسبب ذلك من تواصل حقيقي مع صاحب النص.

ولكن تبقى الترجمة مع كل هذا ضرورية، وما على المترجم إلا أن يعمل على احترام روح النص بمحاولة نقلها في أمانة، أي دون مبالغة أو تقصير، متحرياً في ذلك ما يمكنه من الدقة والوضوح، لأن من شأن ذلك أن يحقق أهدافا نبيلة تتجلى في التعرف وعن قرب على ثقافة الآخر وإسهاماته الفعلية في الحضارة الإنسانية مع ما يصاحب ذلك من اكتشاف حقيقي لهذا الآخر، أو تصحيح لما يكون قد وصلنا عنه من أحكام خاطئة تجعلنا نخافه وننفر منه، بل نعاديه معاداة مجانية نحن في غنى عن كل المآسي والآلام التي تتناسل منها.