الأربعاء، مارس 26، 2008

مليكة مزان : الأمازيغية ˝إسلام˝ المستقبلْ !

( أجرى الحوار حسين أكروح شاعر أمازيغي مقيم بالمهجر )


نص الحوار:

ـ س: من هي مليكة مزان قبل أن تخوض تجربة الكتابة؟

ـ ج: مليكة مزان، قبل أن تخوض هذه التجربة بحلوها ومرها، هي نفس الإنسانة المعروف عنها الآن عشقها للوطن الأمازيغي حد الجنون. هي نفس الإنسانة التي تسمع عنها أنها، وبجرأة نادرة، تقاوم القبح وتلعن الجبن وتتحدى القهر. هي نفس الإنسانة التي ما تزال تحلم بحياة أطيب ومغرب أعدل، أي مغرب أكثر عقلانية وديمقراطية، أي، وبلغة أدق، أكثر أمازيغية.

مليكة مزان قبل تجربة الكتابة هي نفس الإنسانة الكاتبة التي تحاورها اليوم بكل غضبها وتمردها، ذاك أن التمرد والرغبة في التغيير، مع كل العناد المصاحب لهما، صفات طبعت شخصيتي منذ سن مبكرة.

أجل لقد لازمتني الرغبة في مباشرة الكتابة/التمرد كفعل ضروري وجميل منذ وعيت الحاجة إليه وانتبهت إلى جدواه. وقد تم ذلك الوعي في سن مبكرة تحت ضغط الفقروالحرمان، بل وتحت وابل الشتم والقذف في حق أمازيغيتي من طرف بعض التلاميذ وأطفال الحي.

وما كتاباتي الآن وباقي أشكال نضالي سوى انتقام أمازيغي جميل من ذاك الماضي الطفولي القاهر، وإشباع فعلي لرغبتي في مواصلة الاحتجاج والرفض، والتزام مني إجباري لم أكن لأفلت منه.

باختصار مليكة مزان قبل تجربة الكتابة هي تلك الإنسانة التي كانت تنتظر فقط أن تكبر وتنضج وأن تتوفر لها بعض العوامل المساعدة لتعلن عن نفسها كائنا منذورا للكتابة بحروف نارية منذ البدء.

وأعتقد أن هذه العوامل قد توفرت لي دفعة واحدة بعد سفري إلى أوربا حيث وجدت هناك دواعي كثيرة للكتابة ووقتاً كافياً للتفرغ لها بعد أن تركت عملي كأستاذة لمادة الفلسفة بالرباط ولزمت البيت.

ـ س: هل كان المحيط الذي نشأت فيه مهيأ لاستقبالك كصوت شعري؟

ـ ج: محيط النشأة لم يكن مهيأ لاستقبالي كصوت له احتياجاته واحتجاجاته، كان محيطا شحيحا وجارحا، مما جعله سببا في انفجاري بكل تلك المرارة وذلك العنف، بل مازال هذا المحيط يزداد إصرارا على تعامله الجاف مع نبرات هذا الصوت، سواء في لحظات وداعته وتسامحه، أو في نوبات غضبه وتمرده.

هو تعامل كان منتظرا من محيط له منطقه وأولوياته، وله حساباتها الخاصة، وله كذلك أوهامه ومخاوفه. محيط مازلت لا أجد فيه جهة واحدة تستقبل صوتي بما كنت أنتظره من تفهم وتشجيع. ويبقى علي، في أحوال كهذه، أن أدير ظهري لكل الإحباطات، وأحمي صوتي من قسوتها حتى لا يموت، فهو التحدي الوحيد الجميل الذي أصر به على الحياة تماما كما هو وسيلتي الوحيدة لإبلاغ رسالتي الفنية والإنسانية.

ـ س: إن عنف الواقع وقسوة المحيط الذي نشأت فيه جعل منك صوتا يتميز بجرأة عالية وتمرد نوعي، هل هو تمرد على ذات الشاعرة أم على ذات الآخر، أم على ذات المجتمع الذي لم يتفاعل مع نبرات صوتك؟

ـ ج: كل عنف لا بد له من أن يستدعي عنفا ما لمواجهته. هذه آخر قناعاتي. كنت فيما مضى وديعة في تعاملي مع كل عنف على أساس أن العقل والحياة والحب أمور ترفض العنف كفلسفة وحل، ولكن ما أن أحسست بعدم جدوى تلك الوداعة في التعامل مع واقع قاس وعنيد حتى أسرعت إلى تغيير موقفي.

فعلى قدر ما يكون هذا الواقع عنيفا ووقحا بقدر ما يجب أن يكون التمرد عليه أقوى والجرأة على مواجهته عالية. هذا الواقع العنيف لا يستحق منا سوى أن نوجه له صفعات قوية لعل ضميره يستيقظ. هذا إن بقي له من ضمير ونحن نلاحظ ما نلاحظه من تردي الروح بل والعقل أيضا. صفعات تكون بمثابة زلزال قوي لخلخلة كل واقع وإعادة النظر فيه ثم العمل على إعادة بنائه بناء عقلانيا جديدا وفق ما تقتضيه مصلحة الإنسان كقيمة عليا، وإلا ظلت وقاحة الواقع سيدة كل المواقف، ومضى الإنسان ضحية سهلة لكل واقع مفلس.

أعترف أني مؤخرا صرت أكثر جرأة مما مضى في تعرية الواقع، كل واق، كما دشنت تمردا على أكثر من صعيد، تمردا على الذات، على الآخر، كل آخر، الآخر القريب الشبيه، والآخر البعيد المخالف، وكذلك على واقع العلاقات بين كل هذه الأطراف.

هي جرأة على التمرد وجرأة أيضا على المواجهة الصريحة، مواجهة الجميع بنفس العنف وبكثير من الرفض، رفض الصمت والجبن، رفض النفاق والخداع، رفض الاستسلام والخيانة.

بل هي جرأة أعتبرها رمز قوتي وصمودي لانتشال الذات من مآزقها وخذلان الآخر لها، فردا كان أو جماعة، جرأة أسجل بها انفلاتي الأصيل من قبضة كل قهر أعرف أني ـ إن لم أواجهه بما يكفي من شجاعة ـ سيكون مصيري الانهيار والجنون، أو على الأقل الخضوع والاستكانة. وكلاهما لن يجدا عندي سوى الرفض تلو الرفض.

ـ س: كشاعرة أمازيغية وظفت اللغة العربية كأداة للتعبير عن الحلم والجرح الأمازيغيين هل تشعرين بنوع من الاغتراب بعدم استعمالك وتوظيفك للغة الأمازيغية كلغة قريبة إلى النص، أم أن اللغة العربية كانت كافية للتعبير عما تريدين؟

ـ ج: اللجوء إلى لغة أخرى للكتابة والتعبير ظاهرة معروفة جدا لدى مثقفينا الأمازيغ، وعبر كل مراحل عيشهم تحت هيمنة الثقافات التي غزت بلاد تامازغا، إذ نجد منهم، ومن قبل الغزو العربي، من كان يكتب باليونانية ومن كان يكتب باللاتينية. ولست أدري ما كان الداعي لديهم إلى هذا المنفى الثقافي، وهل كان منفى اضطراريا، أم منفى اختياريا تفسره فقط الرغبة في الترجمة المباشرة لانشغالاتهم الفكرية والوجدانية حتى يطلع عليها الآخرون.

عامة عرف عن الأمازيغ ومنذ القديم هذا الميل إلى الكتابة بلغة الآخر، بل والإعلان عن ولائهم التام للغرباء، وكذلك تسمية الذات والأبناء بأسماء من ثقافات هؤلاء، والنتيجة كانت إفقار الثقافة المغربية حد النزف، بل حد ما يشبه الانقراض والموت.

وأعتقد أن اللحظة التاريخية التي يعيشها العالم الأمازيغي الآن، لحظة استرداد الوعي بالذات، جاءت لتصحح أخطاء الأمازيغ الأولين، ولتنقذ ما بقي من الذات الأمازيغية الصامدة أمام كل أشكال المحو التي هددتها وتهددها، سواء من الداخل على يد الأمازيغ أنفسهم أو على يد الغرباء والدخلاء.

شخصيا أحس وأنا أكتب بالعربية باغتراب فظيع ليس لي أن أنجو منه، ذاك أنها ليست لغة وطني وقومي بل لغة غريبة دخيلة على أرضي وكياني، لغة فرضت علينا فرضا من طرف أحفاد الغزاة، هؤلاء الأحفاد الذين، وهم يدرجون الآن لغتنا الأمازيغية في البرامج الدراسية ـ من أجل عقد في ما يبدو على الأقل نوع من التصالح مع الذات المغربية تفاديا لمزيد من اجتثاث هويتها الأصلية، ودفعا منهم لكل ما يمكنه، تبعا لذلك الاجتثاث، أن يزعزع استقرار البلاد ووحدتها ـ لم يدرجوها كغاية في حد ذاتها، بل اعتبروها مجرد مادة يستأنس بها التلاميذ في تعلم اللغة العربية. وفي ذلك استخفاف بنا وبلغتنا الأم وبمشاعر الجماهير الأمازيغية الغفيرة أي ما استخفاف.

لذلك أرى أن أحسن انتقام من سلوك عنصري كهذا هو التعامل مع اللغة العربية لا على أساس أنها لغة الأرض والشعب ـ وأنى لها أن تكون كذلك؟! ـ بل فقط على أساس أنها مجرد وسيلة يلجأ إليها كل من حرم مثلي من لغته الأم ولتحقيق هدف واحد هو:

إرسال صوته من العدم في اتجاه كل تعبير صارخ عن جراحاته الأمازيغية العميقة والتي هي جراحات هذا الشعب الذي قدم من دمائه ومن تضحياته الشيء الكثير فقط لتنعم الأقلية العربية بخيرات مغرب الاستقلال على حساب القاعدة الأمازيغية الواسعة المحرومة.

نعم إن الكتابة باللغة العربية في نظري اغتراب مر كأي اغتراب آخر، ذاك أن الوجدان الذي انبثقت منه كل قصائدي المكتوبة باللغة العربية كان، وما يزال، بل وسيمضي وجداناً أمازيغياً بالأساس، واللغة الوحيدة التي كان من الممكن أن تعبر بكفاية كريمة جدا عن هكذا وجدان متوجع هي اللغة الأمازيغية لغتي الأم. لكني، للأسف، لم أكتب بها بسبب عدم إتقاني لها، لا كلغة تواصل يومي شعبي، بل كلغة خلق وإبداع تحاصرها سياسة التعريب التي تتربص لنا، ومنذ الصغر، في الوطن والمهجر، في المدن والبوادي، في الشارع والمدرسة والمسجد والبيت، ولهدف واحد: محو ما تبقى من ملامحنا الأمازيغية.

لكنها سياسة، إن نجحت في تعريب ألسنتنا، ما لها أن تنجح أبدا في تعريب أرواحنا ووجداننا وقناعاتنا.

لقد كان على النخبة العربية الحاكمة أن تدرك باكرا هذه الحقيقة، وأن تتصرف بذكاء وعدل مع الشعب المغربي الأمازيغي، بدل كل هذه السياسات الاستئصالية التي لم ولن ينتج عنها سوى إحساس المواطنين بمزيد من القهر، وبالتالي بضرورة الرد عليه وبكل أشكال الاحتجاج والصمود والرفض.

هنا لن يفوتني أن ألتمس من المترجمين الأمازيغ أن يكرموا إخوتهم الكتاب المغتربين في اللغات الأجنبية بأن يعيدوا كتاباتهم إلى لغتها الأم، لغتها التي كان من المنتظر أن تخرج بها ومنها إلى العالم، لولا سياسة أولئك الذين أجرموا في حق ثقافتنا ووجودنا معتقدين أنهم بذلك يخدمون غايات نبيلة في حين أن "غاياتهم النبيلة" تلك غايات بعيدة كل البعد عن إكرام الإنسان. ذاك أن إكرام الإنسان، أي إنسان، لن يكون بغير احترام حقه في الوجود وفي الاختلاف وكما تنص على ذلك وتوصي به كل المواثيق الدولية.

شخصيا يوم أسمع قصائدي تلقى باللغة الأمازيغية ربما لن أستطيع الإفلات من رغبة ملحة في البكاء، تماما كما لا أستطيع تفادي ذاك التفاعل الجميل مع أي أغنية أمازيغية أسمعها مع أني في بعض الأحيان ـ وبسبب التعريب ـ لا أفهم كل كلماتها بالضرورة.

ـ س: غالبا ما تعرضت نصوصك إلى انتقادات يغلب عليها الطابع الانفعالي أكثر مما هي آراء نقدية أدبية تتناول الجانب الجمالي في النص كنص يتميز بصوت متمرد جريح وعنيد. هل هذا الانفعال راجع إلى غياب أقلام النقاد أم أنه لازالت هناك خلفية يحكمها تراكم إيديولوجي سياسي بعيد عن النقد الأدبي؟

ـ ج: من الطبيعي جدا أن يطمح كل مبدع إلى أن يلتفت النقاد إلى تجربته، وكم يكون سعيدا إذا ما وجدهم يقومون بذلك وبشكل موضوعي وجاد، فالتفات النقاد إليها بهذا الشكل مقياس نجاح تجربته في فرض نفسها وجلب الأنظار إليها، ودليل على أنها إضافة تستحق استغوارها ، والوقوف عندها للكشف عن قيمتها الفنية والفكرية.

بالنسبة لي لم تجد تجربتي، في بدايتها، من يقف عندها وقفة طويلة موضوعية ومنصفة. كثير من الذين اطلعوا على نصوصي كانوا يبدون إعجابا يصل بعض الأحيان حد الاندهاش والإشادة بأصالة التجربة وتفردها، وبكونها إضافة نوعية إلى الكتابة الشعرية، سواء داخل المغرب أو عبر ما يسمى ظلما بالعالم العربي.

ولكن إشادتهم تلك لم تتجاوز كونها تعليقات عابرة، أو كتابة بضعة سطور في تقديم ديوان، أو إنزال خبر صدور ديوان لي جديد بإحدى الجرائد أو المجلات أو المواقع الثقافية.

وكما كان ضمن هؤلاء القراء والنقاد من ظل وفيا لنفس موقفه وعلى امتداد تجربتي الشعرية، كان فيهم أيضا المجاملون الذين سرعان ما انفضحت حقيقة مواقفهم  بمجرد ما انتبهوا إلى كوني أصر على توقيع نصوصي بانتمائي الأمازيغي وإلى ما أحمَّله لهذه النصوص من رسالة إنسانية ذات هموم وانشغالات أمازيغية صرفة.

فقد تغير موقف هؤلاء من كتاباتي وانقلبوا ينتقدونها من جديد لكن هذه المرة انطلاقا من قناعاتهم الإيديولوجية وأحقادهم العنصرية، مما جعل بعضهم يسقط في ما هو أبعد عن النقد وهو التجريح بالشتم والقذف ليس في حق شخصي وكتاباتي فقط، بل وفي حق انتمائي الأمازيغي واختلافي الثقافي، بل وفي حق الشعب الأمازيغي وكل الشعوب المضطهدة التي تعيش تحت أنظمة الحكم العربي ومنها بالخصوص الشعب الكوردي الصامد، مما فضح حقيقتهم وكشف أي نوع من المثقفين والنقاد هم.

لقد صدمت عميقا وخرجت بخلاصة، إن ليس من حقي تعميمها، فمن حقي على الأقل تسجيلها وهي تدني المستوى الأخلاقي لبعض المثقفين العرب، تدن ماتت معه ضمائرهم وتجلت فيه خيانتهم لرسالتهم الإبداعية والإنسانية.

إن أغلبهم ينشغلون بالتافه من المواضيع أو بالمفتعَل من القضايا، أو لا تجد لهم من هم سوى تبادل المجاملات والتسابق إلى الألقاب والجوائز أو تبادل الشتائم والتهم أو، في أسوء الأحوال، الانسحاب ولزوم الصمت إزاء كل الفظاعات التي تقترف أمام أعينهم، وذلك في الوقت الذي تحتاج فيه الجماهير المستضعفة إلى أقلامهم الحرة النزيهة الجريئة بعد أن يكون رجال السياسة قد خانوا آماناتهم ، لتظل هذه الجماهير المقهورة بلا سند ولا أمل.

إلا أني مؤخرا، ومن خلال نشر كثير من قصائدي في مواقع ثقافية محترمة على شبكة الانترنت، وجدت من يقف عند تجربتي الشعرية طويلا سواء كمجرد قارئ متذوق أو كناقد محترف بأن جعلها موضوعا لأكثر من مقال نقدي ودراسة متخصصة جادة.

ـ س: ما مشاريعك المستقبلية كشاعرة مغربية أمازيغية لها حضور قوي في ميدان النشر الرقمي؟

ـ ج: النشر الرقمي مرحلة لا بد أن يدخلها كل كاتب له طموحه المشروع في الانتشار الكبير، خاصة وأن المزية الأولى للنشر الرقمي هي إمكانية النشر وسرعته.

وهنا أعترف أن ما حققته شخصيا من شهرة سأظل مدينة به لتلك المواقع التي نشرت بها، فهذه الأخيرة جعلتني أتحرر من ذاك الإحساس القاهر بالإقصاء والذي تمارسه بعض مؤسسات النشر، أو بعض منظمي الملتقيات الثقافية، ملتقيات لا يستدعى لحضورها من الكاتبات سوى ذوات العلاقات الوطيدة بأصحاب الكلمة النافذة في الأوساط السياسية والثقافية.

ولكن، وبعد أن طردت من ثلاثة من هذه المواقع عربية وأمازيغية أيضا (!)، وكذلك بعد انسحابي من اتحاد كتاب الانترنت العرب، ولم يمض على تواجدي به سوى بضع ساعات ـ بسبب إصراري على أن أكون لسان حال الشعب والثقافة الأمازيغيين ورفض البعض هناك لاختلافي العرقي والثقافي ـ لم أعد أتحمس كثيرا لمواصلة النشر الرقمي وبالشكل المكثف الذي كان يتم به ذاك النشر.

فقد لاحظت، فيما بعد، أن هناك للأسف رقابة مباشرة حتى في النشر الرقمي، رقابة عنصرية تحول دون إصرار ما تبقى بيننا من المثقفين الغيورين على أداء رسالتهم الإنسانية، رقابة تتذرع بحجج واهية مفادها ضرورة الوفاء لشروط التسجيل، وما إلى ذلك من العراقيل التي لا تستحيي من الانتصار لقيم بائدة ضدا على قيم جديدة عقلانية وشجاعة، ولحقوق فئة (هي أقلية متغطرسة) ضدا على حقوق فئة أخرى (هي أغلبية مستلَبة خاضعة)، همها الوحيد في كل ذلك لا سعادة المجتمعات البشرية وخلاصها، بل الإبقاء على كل واقع مؤلم مرير.

إن شروط بعض المواقع الثقافية شروط تكيل بمكيالين، تتسامح مع البعض وتحاصر البعض الآخر، وبشكل مسيء جدا لسمعة تلك المواقع ومن يقف خلفها من أفراد أو حكومات ومن إيديولوجيات مغرقة في التعصب ورفض الاختلاف، إيديولوجية عدوة للإنسان ولقيم الحرية والعدل والتسامح، خانقة لنداء العقل، هذا العقل الذي تمنحه عطلة مفتوحة لا نجني منها جميعا سوى كثير من الألم والخسارات.

هذا بالنسبة لموقفي من النشر الرقمي، ذاك أني أقتصر الآن على النشر في موقع واحد هو "موقع الحوار المتمدن" رغبة مني في التضامن مع كل موقع شبيه يعاني ما يعانيه من حجب في بعض دول الشرق الأوسط المعروفة بعدائها للعقلانية ومناهضتها للعلمانية ولكل قيم الديموقراطية والحداثة .

أما بالنسبة للكتابة في حد ذاتها فهناك أمامي أكثر من مهمة ستأخذ مني ما يلزم من الوقت، وهي تتوزع ما بين إصدار ديوان جديد، وكتابة رواية عن القضية الأمازيغية تستلهم تجربتي الحياتية والنضالية الخاصة، وكذا نشر مجموعة من الحوارات الصحافية و من الرسائل المفتوحة الموجهة إلى شخصيات بارزة أو جهات مسؤولة ضمن كتاب.

ـ س: الأمازيغية مجرد ذاكرة ووشم، أم حق في الكرامة والحرية والوجود؟

ـ ج: كما تشكل الأمازيغية حيزا جميلا من الذاكرة الجمعية للقارة الإفريقية وماضيها المشرق خاصة في جزئها الشمالي حيث مهد الحضارات العريقة العظيمة أرى أن من حقها (حق الأمازيغية) أن تصير حاضرا وطنيا وإقليما وإفريقيا، بل وعالميا معاشا بكامل قوة وكامل اعتزاز، ذاك أن الأمازيغية ـ بفضل ما تضخه في شرايين المنطقة بل شرايين العالم كله من قيم التسامح والانفتاح والتعايش ـ من شأنها أن تلعب دورا حيويا في ضمان الاستقرار وتحقيق كل سلم وسلام.

لكن البعض يخطط لأن تبقى الأمازيغية مجرد ذاكرة باهتة قليلا ما تحركه الرغبة الصادقة في أن ينفض عنها الغبار، لتجد الأمازيغية نفسها ـ بدل أن تتفرغ  للعب دور تلك الثقافة الحارسة لقيم الاستقرار والتعايش ـ وقد انشغلت بالدفاع عن حقها الخاص في الوجود، دفاع كم كانت في غنى عنه لولا  تلك الحرب القذرة التي يحلو لكثير من عديمي الضمير أن يشنها ضدها وضد شعبها كواحد من الشعوب الأصلية.

هكذا ومع هذا التبخيس لقيمتها التاريخية ولدورها الحيوي في اللحظة الراهنة أخاف أن تتحول الأمازيغية إلى مجرد لعنة نتحمل تبعاتها المرة في مدننا وقرانا، في سهولنا وأعالينا، في ودياننا وصحارينا، في استقرارنا وترحالنا، ودون أن يتخذ وجودنا في ظلها أي معنى غير معنى الرضوخ والانمحاء من أجل سيادة الآخرين، أو على الأقل أخاف أن تظل مجرد نضال يستغرق المستقبل كله ـ كما استغرق الماضي كله ـ حتى نمنح الأجيال الأمازيغية القادمة شبر ظل تحت شمس كرامة قد لا تبزغ وسط كل هذه العتمة من الجحود المر والقتل العمد.

ـ س: في ظل تحديات هذا القرن كيف تتصورين مستقبل الأمازيغية؟

ـ ج: مستقبل الأمازيغية مرتبط أساسا بقدرة الأمازيغ أنفسهم على الرفض والمقاومة إلى أبعد مداهما ـ السلمي طبعا ـ ذاك المدى الذي تعود معه الأرض الأمازيغية أمازيغية كما كانت ، وكما هي ، وكما يجب لها أن تبقى.

مستقبل الأمازيغية هو مستقبل الأرض الأمازيغية.. وحدة ترابية وسيادة، ثقافة وإنسانا هوية وذاكرة، مجدا وكرامة. فمن غير هذه الأبعاد مجتمعة لن يعود أمامنا من شيء نفعله إزاء الأمازيغية سوى أن نشيع جنازتها، التي هي جنازتنا، لأن حياتها وموتها بأيدينا، نحن الأمازيغ، قبل أي طرف آخر.

ذاك أن الوجود الحق هو ذاك الذي ننتزعه ونمارسه لا ذاك الذي نستجديه من قوى معادية ـ محلية أو إقليمية أو عالمية ـ نعرف أنها لن تجود به قط إلا استردادا بالقوة.

ـ س: بأي لغة تصرخين لحظات الغضب؟

ـ ج: منذ أن فقدت ثقتي في الصلاة عامة، وفي إله ودين العرب ، صرت أصرخ بلغات ثلاث لا رابع لها: القصيدة العاهرة، كسر أواني المطبخ، البصق حولي كلما عضتني قسوة الأشياء، أو أفقدني صوابي خبث المكان واللحظة وكل آخر كريه، أقول كريه لسبب واحد:

قسوته وإصراره على رفضه لي، وجحوده لحقوق شعبي وأرضي في الوقت الذي يتمتع هو فيه وقومه بكامل اعترافي.

ـ س: هل الرقابة الممارسة عليك تجعلك أكثر قوة عكس ما ينتظره منك صاحب الرقابة؟

ـ ج: لا أدعي أن كتبي الورقية قد منعت من النشر، ولكني أعتبر ما قدمه لي أحد المنتمين إلى محيط القصر من "نصح" لجعلي أتخلى عن كتابة القصيدة الملتزمة بالدفاع عن قضيتنا الأمازيغية العادلة، إلى جانب مطالبته لي بسحب ديوان لي من المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذي كان ينوي دعم الديوان المذكور بنشره وترجمته إلى اللغة الأمازيغية، وكذلك التعامل العنصري لبعض المثقفين العرب مع ما أنشره على شبكة الانترنت، أقول أعتبر كل هذه التصرفات نوعا من الرقابة هدفها اغتيالي مثقفةً غيورة ومناضلةً شجاعة، ضميراً إنسانياً حياً وصوتاً أمازيغياً منتفضاً، هويةً صامدة وحقاً مشروعاً في الاختلاف وفي الحياة.

ولكنها رقابة فات هؤلاء جميعا كونها مثل صب البنزين على النار الملتهبة أصلا، فمع كل قمع وكل حصار، وكل إقصاء وكل تهميش، وكل عنصرية وكراهية، وكل خيانة وخذلان من طرف بعض الأمازيغ أنفسهم (سامحتهم الأرض)، لا أزداد سوى إصرار على تأدية رسالتي الإنسانية والثقافية، وبكل ما لدي من قوة وإيمان، بل لا أزداد أحيانا ـ تحت كل هذه الضغوطات السياسية والنفسية ـ إلا كفرا وتمردا ! إلا تطرفا ورغبة في إشعال نار الثورة والتحرر حتى يكون الشعب الأمازيغي أو لا يكون!

ـ س: ما هي الأشياء التي تفرحك؟

ـ ج: كثيراً ما أحسني كائناً روحانياً سامياً لذلك لا أجد لدي أي طموح مرتبط بالماديات. أكتفي بنضالي وبانتصاري لقيم الحق والخير والجمال مصدرين رائعين للإحساس بكل سعادة. إني لأجدني سعيدة حقاً مع كل قصيدة ملتزمة ناجحة، بعد كل حق يُعترَف به لأصحابه، في حضن كل عاطفة نبيلة صادقة، في ظل كل منطق سليم يعيد الأشياءَ للمناسب من المكان واللحظة، للجميل من الوظيفة والمعنى.

كلها مواقع ولحظات تجعلي أسكر بالسعادة التي أبحث عنها، وبالتالي تساعدني على أن أغفر لهذا العالم كثيرا من جنونه وخبثه.

ـ س: هل لك من كلمة أخيرة؟

ـ ج: من الصعب أن تكون لي كلمة أخيرة ، فالكلمة الأخيرة بمثابة حكم نهائي يمكن إصداره حين تتضح الأشياء ولا أعتقد في هذه اللحظة الزمنية أنها كذلك . لكني لن أتأخر هنا في البوح بمشاعر أحسها وقد تصدم العنصريين وتزيد من تعنتهم ، ومفادها أني أتمنى ـ في غياب كل اعتراف رسمي وطني ودولي بأمازيغية أراضينا، بل وإقامة دول أمازيغية عليها ـ أجل أتمنى لهذا العالم مزيدا من البؤس ومن الدمار، لأنه بالنسبة لي لا ديموقراطية هناك، ولا عدالة، ولا مساواة، بل ولا وجود حقيقي ومشرف للإنسانية مع كل هذا الصمت المحلي والعالمي إزاء القتل العربي العمد للهوية الأمازيغية لأرضنا وشعبنا وثقافتنا، ولا مع هذا الإهدار العربي اليومي لكرامتنا كشعب أصلي وكل الشعوب التي في مثل وضعيتنا.

حين تتراجع العروبة المتواجدة الآن على غير أراضيها وبكل شجاعة لتترك الشعوب التي تحتلها تحكم نفسها بنفسها، إذاك فقط يمكن للحكومات العربية أن تتحدث عن القيم العربية النبيلة (إن كانت قيم العرب على شيء من النبل)، وعن الديمقراطية العربية (إن كانت لهذه الحكومات بعض الشجاعة على دمقرطة الحياة فيها)، وعن تمتع الإنسان الذي يعيش تحت هيمنتها وغطرستها بكل حرية وكرامة (إن كانت تقوى على تمتيعه بحرياته المستحقة وكرامته اللازمة دون أن تخشى شيئا على وجودها واستمرارها)، وعن الرغبة الصادقة في تطهير ملف عهرها الصارخ من كل أشكال الاستلاب والاستغلال (إن كان لها أن تكف ظلمها عن المستضعفين الذين ما فتئوا يرفعون جراحاتهم للتنديد بغطرستها وجرائمها).

تلك هي كلمتي الأخيرة لهذا الحوار وشكرا.