الأربعاء، مارس 26، 2008

مليكة مزان : لا لكل مساومة على الشرف واحترام الذات


(أجرى الحوار الصحافي المغربي نور الدين بازين لصالح جريدة "الحقائق" اللندنية)

نص الحوار:

ـ س: وصلتني شكاوي من بعض الشاعرات والكاتبات مما يتعرضن له من طرف بعض الكتاب والمتعلقة بالتحرش الجنسي عبر كتابات ورسائل، وقد دفعني هذا الفعل الصادر عمن يعتبرون مبراس الأمة المغربية إلى الاشتغال على موضوع العلاقة بين الأدباء والأديبات وحدود تصادمها. ما هي، وأنت الشاعرة، شهادتك بهذا الصدد؟

ـ ج: أولا أشكرك، الأخ نور الدين بازين، على اقتراحك هذا الموضوع وطرحه للنقاش لما له، للأسف، من امتداد حقيقي في واقعنا، وأرى أن هذا الطرح كان منتظرا منك لما أعرفه عنك من نبل الخلق ومن الغيرة القوية على سمعة المبدع والمثقف الحقيقي.

قبل الحديث عن التحرش الجنسي موضوع شكوى بعض الكاتبات، كما ورد في السؤال، لا بد أولا من تحديد المقصود بالتحرش الجنسي.

لعل معنى هذا المفهوم، حسب معجم "لاروس"، يتحدد في استعمال ما يخوله لك منصبك ومركزك من سلطة ونفوذ لنيل ما تريده من شخص ما، يعمل تحت إشرافك،  من خدمات جنسية لا قابلية ولا استعداد مسبق لدى هذا الشخص لأن يكون وسيلتها أو يصير موضوعا لها.

انطلاقا من هذا التحديد فإن وصف ˝التحرش الجنسي˝ لا يمكن أن نطلقه على ما يصدر عن بعض مثقفينا وكتابنا من تصرفات غير لائقة إلا إذا كانت هذه التصرفات يدعمها ما قد يكون لدى هذا الكاتب أو ذاك من سلطة أو نفوذ في الأوساط الثقافية أو السياسية، نفوذ يلجأ إليه للضغط على أي كاتبة يعرف عنها طموحها المشروع في إثبات الذات، وبهدف دفعها إلى الاستجابة لرغباته الجنسية.

ليبقى سلوك هذا الصنف من الكتاب نوعا من المساومات الخبيثة، ولتندرج استجابة تلك الكاتبة وانقيادها له، إن تحقق، ضمن التنازلات التي غالبا ما تكون مسيئة لسمعتها أيما إساءة.

عموما إن التحرش الجنسي لم يكن ليخلو منه أي مجتمع بشري، لكن أن يظل هذا التحرش ظاهرة قائمة رغم كل هذا التطور الذي لحق الحياة الإنسانية فهذا ما يدعو فعلا إلى الاشمئزاز، إذ يدل ذلك على أن التطور لم يمس قط حياتنا الاجتماعية وعلاقاتنا البشرية ما دمنا نلاحظ استمرار مثل هذه السلوكات المحض حيوانية، والتي من شأنها العودة بنا إلى منطق الغاب حيث يفرض القوي غرائزه المتوحشة على الضعفاء وعديمي الحيلة.

بل من الصادم جدا أن تصدر مثل هذه السلوكات عن نخبتنا المثقفة التي هي موضع ثقة، والتي يعول عليها في تغيير الذهنيات والسمو بالحياة والتعاملات، نخبة تدعي لنفسها شرف قيادة المجتمعات نحو ما تطمح إليه من كمال إنساني، بينما يكشف واقعها الفعلي أنها نخبة المفارقات والتناقضات، نخبة الكذب والزيف والمكر، نخبة لا تتعب من التنظير لمجتمع إنساني أساسه حفظ كرامة كل إنسان، لكنها تنسى أو بالأحرى تتناسى، وهذا مصدر لصدمة أقوى، أن الإصلاح إنما يبدأ من الذات قبل أن نطالب به الآخرين.

شخصيا، ومنذ مساهماتي الأولى التي حاولت أن أسجل بها حضوري في الساحة الثقافية العربية والأمازيغية على حد سواء، كان لي هدف واحد:

أن أشارك بكتاباتي الملتزمة في السمو باللحظة المغربية المعاصرة من خلال الدفاع عن إنسانية المواطن الأمازيغي وحقه في كل إنصاف جاد وحقيقي، وكنت أطمح إلى أن يتعامل معي المثقفون عامة انطلاقا من تلك المساهمات ومن خلالها، وأن أجد لديهم التفهم والتشجيع الكافيين للاستمرار.

لكني فوجئت بالسلوكات الخبيثة لجل الذين كنت أعتقد أن هموم الكتابة والنضال هي ما سيجمعني بهم، وأنها (هموم الكتابة) ما سيوحد بين مجهوداتنا من أجل أهدافنا النبيلة المشتركة.

ولولا تلك الحالات الاستثنائية الجميلة والمشجعة التي يشكلها أولئك الذين كانوا، ومازالوا، يحترمون أنفسهم بإخلاصهم لمبادئهم وقيمهم الأخلاقية لكنت سحبت كل ثقتي من مثقفينا، واعتزلت الكتابة والملتقيات الثقافية، وقطعت صلتي بالآخرين اتقاء كل تحرش يريد أن يختزلني في مجرد دمية للمتعة الجنسية، سالبا إياي اعتزازي بنفسي ونظرتي إلى ذاتي ليس كمجرد امرأة وجسد بل ككائن إنساني بالدرجة الأولى، كائن أراه يتمتع بكثير من الصفاء والذكاء البناء، كائن لا طموح له من وراء الكتابة والنزول إلى الساحة الثقافية غير مشاركة الناس آلامهم وآمالهم، ومحاولة إفادتهم بما يملك من قدرة على الحب والعطاء.

إنه نوع من التردي الخلقي شاء سوء حظي أن أكتشفه ولم أكن لأنتظره، لذا صدمني كثيرا بل وعنيفا، صدمني لأني كنت نزلت الساحة الثقافية ببراءة الأطفال وصفائهم، وبسذاجة الطيبين الحالمين، المحسنين الظن بالجميع.

ترد وجدت نفسي معه حائرة بين ضرورة احترامي لنفسي ومقاومة كل تحرش مع فضح مرتكبيه، وبين لزوم الصمت مع التنازل عن كثير من كرامتي مقابل تحقيق أحلام مشروعة وبسيطة لا تتعدى:

ـ أن تجد إحدى قصائدي مكانا لها على صفحات جريدة، قد أكتشف في ما بعد أني لا أشاطرها توجهها واختياراتها، أو أن الحزب الذي يصدرها لا يخدم مصالح قومي وثقافتي بالشكل الكافي لتبرئته من كل خذلان وخيانة أو تلاعب واستخفاف بثقة شعبي.

ـ أو أن أبشر بصدور كتاب لي يحصل أخيرا على ما اِنتظرَه طويلا من دعم مستحق، دعم كان سيظل صعب المنال إلا إذا قبلت توسط ذاك المتحرش بي.

ـ أو أن أتوصل بدعوة للمشاركة في لقاء ثقافي قد أستدرك، في ما بعد، أن مواقف منظميه مواقف جاحدة لأهم مطالبي الثقافية والسياسية كمواطنة أمازيغية، أو أفاجأ بأحد منظميه وهو يحاول أن يفرض علي قضاء ليلة ساخنة بين أحضانه وإلا حرمني من حضور أي لقاء قد ينظم فيما سيأتي...

ـ أو أن يكتب لي أحدهم تقديماً متواضعاً لأحد دواويني.

ـ أو أن ينجز دراسة نقدية حول تجربتي قد تبدو لي، في ما بعد، في غاية السطحية والتفاهة.

ـ أو أن يبعث لي أحد الصحافيين بأسئلة حوار ستستفيد من صراحتي وجرأتي المعهودتين في الإجابة عنها تلك الجهة أو الجريدة التي كلفته بإنجاز ذلك الحوار أكثر مما سيستفيد منهما شخصي وشعبي.

ـ أو أن ... أو أن ... ولكل شيء مقابل ولكل خدمة ثمن: تنازلي عن كرامتي ومبادئي مع إذلالي لنفسي أيما إذلال!

إنني، بسبب ما كنت أجده من صعوبات النشر والتواصل مع القراء (قبل انخراطي في النشر الرقمي) والتي كان يستغلها بعض مثقفينا لتلبية غرائزهم الجنسية، لأجدني جد متألمة بل وغاضبة من هذا النوع من التعامل، خاصة حين يلجأ كل مثقف، مهنته التحرش بكل من ساقها قدرها إليه، إلى استعمال العنف بكل أشكاله حتى الجسدي منه، بعد أن يعتريه إحساس قوي باليأس من استجابتها له رغم سيل الرسائل والحركات التي يكون قد تودد إليها بها من قبل.

كما أحس بنفس الألم والغضب لكل تهميش يصير حظ كل من سولت لها غيرتها على كرامتها أن تصرخ صرختها الجميلة: "لا  لكل مساومة حقيرة على الشرف واحترام الذات!". لكن ومن حسن الحظ ثمة دائماً عزاء جميل هو مصدر كل تحد وصمود واستمرارية:

كون الإبداع الإنساني الحقيقي لا بد أن يصل يوما ما إلى الجماهير التي من أجلها كان والتي من أجلها، وحدها، سيبقى متحدياً كل عهارة تهدده، وكل حصار يضرب عليه من لدن عديمي الضمير، خائني صلوات الشعب وانتظاراته، تلك الانتظارات التي بالاستجابة الصادقة لها، وبها وحدها، يكون المثقف الحقيقي أو لا يكون.