الأربعاء، مارس 26، 2008

مليكة مزان : لا ديمقراطية حقيقية بدون هوية ولغة أمازيغيتين رسميتين ...

(أجرى الحوار رشيد عدناني أستاذ محاضر بجامعة بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية)

نص الحوار:

ـ س: كيف تعيشين تجربة الكتابة الإبداعية باللغة العربية دون التنازل عن هويتك الأمازيغية؟

ـ ج: في إصداراتي الورقية السابقة لم أكن لأشير إلى هويتي الأمازيغية إلا بشكل عابر باهت. لم يكن لدي وقتها هذا القدر من الإحساس القوي بالانتماء. أتحدث هنا عن كل من ديواني الأول "جنيف.. التيه الآخر"، وديواني الثاني "لولا أني أسامح هذا العالم".

لكن وانطلاقا من ديواني الثالث "لو يكتمل فيكَ منفاي" (الديوان مجموعة قصائد/رسائل مفتوحة إلى مناضل أمازيغي هو أحمد عصيد) صار التنازل عن هويتي كشاعرة أمازيغية أمرا غير وارد على الإطلاق.

كان هدفي أساسا هو التعبير عن رفضي لظاهرة كانت تسود وما تزال المجتمع الأمازيغي، وهي ظاهرة مثيرة للاشمئزاز تتجلى في تخلي أغلب مثقفينا المغاربة عن هويتهم الأمازيغية في تسابق منهم إلى اقتراف مختلف أشكال الولاء لأسيادهم العرب.

لقد كانت تجربة الإبداع بلغة عربية موقعة بهوية أمازيغية اختبارا صعبا حقا للجميع.

ظهرت صعوبته بالنسبة لي في مدى قدرتي على مواصلة الاعتزاز بانتمائي العرقي والثقافي، ومدى تشبثي بهما والدفاع عنهما مع ما كان يجره عليَّ ذلك من غضب بعض العرب العنصريين والأمازيغ المستلبين وتهميش الجميع لي.

وهو وضع محرج كان عليَّ فيه إما الإصرار على التشبث بهويتي الأمازيغية والصمود عليها رغم كل هذا التهميش والرفض الذي كنت أواجه به، وإما التنازل عن تلك الهوية والقبول بأن يخضعني العربي لإرادته وهيمنته، ويحسبني على منظومته الثقافية الخاصة به مع ما يعنيه لي هذا الخيار الأخير من تراجع عن أداء رسالتي الإبداعية والنضالية، بل من خيانة للجماهير الأمازيغية التي تنتظر من المثقف أن يكون صوتها الأمين والمدافع المستميت عن حقوقها ومصالحها.

أما بالنسبة للآخر (عربيا كان أو أمازيغيا) فقد ظهرت صعوبة هذه التجربة/الاختبار في مدى قدرة العربي على الانفتاح على الثقافات الأخرى وتسامحه معها وإيمانه بضرورة الاعتراف بالآخرين المختلفين من جهة، وفي مدى وعي الأمازيغي بخطورة ما يحاك ضد بقائه وثقافته من مؤامرات الإبادة والمحو تحت ذرائع مختلفة من جهة ثانية.

أما في ما يتعلق بنتيجة ذلك الاختبار فبالنسبة لي شخصيا لا يمكن لي إلا أن أعتز بموقفي، فقد أبديت، وما أزال، تشبثا صارما بهويتي الأمازيغية تشبثا عانيت بسببه ما عانيته من تهميش وإقصاء فظيعين.

أما بالنسبة للعربي فإن نتيجة هذا الاختبار الثقافي كانت على العموم غير مشرفة . إذ سقطت عنه كل الأقنعة، وبدا فظيعا برفضه لكل ما هو غير عربي، وباستنكاره لكل دعوة لتصحيح ما ارتكبه العرب من أخطاء في حق الآخرين.

إن الآخر العربي لم يجد في إصراري على توقيعي نصوصي بانتمائي الأمازيغي سوى استفزاز له، واعتداء سافر عليه، وصفعة لم يكن ينتظرها ورآني أوجهها له مؤمنة بأنه قد حان الوقت لأن يستفيق لفظاعة مواقفه، ولعنفه وعدم تسامحه هو المعتد كثيرا بعروبته، هو الذي يأبى الاعتراف للآخرين بأي وجود خارج عروبته ودينه، ولكنه لا يتردد في رفع صوته محتجا على ما يسميه اغتصابا لأراضيه، أو هجوما على مقدساته، أو تهديدا لثقافته ووجوده.

بل كان من المثقفين العرب من سمحت له نفسه أن يتجاوز كل ذلك إلى الشتم والسب في حقي، وفي حق الثقافة والشعب الأمازيغيين، وكذلك في حق الشعب الكوردي نظرا لعلمهم بعلاقة النضال التي صارت تربطني ببعض الشعراء الكورد، هادفا بذلك إلى إهانتي وثنيي عن مواصلة نضالي وأداء رسالتي.

إذا كان ذاك هو موقف الآخر العربي فإن بعض المحسوبين على الانتماء الأمازيغي أبدوا كثيرا من الجبن والتنكر للهوية الأمازيغية مدافعين عن موقفهم بضرورة التسامح وعدم التعصب، وهما عنصران أراهما دائما يتحققان من طرف واحد هو الطرف الأمازيغي، أما الطرف العربي فكل محاولة لاسترداد الذات الأمازيغية لنفسها من كل اغتراب وإقصاء وكل محاولة منها لحماية هويتها وثقافتها، وبالتالي وجودها، كانت وما تزال في نظره مجرد رغبة في إشعال فتيل الحرب الأهلية ليس إلا، وما إلى ذلك من الاتهامات التي يُرمى بها الأمازيغ الغيورون، والتي تعودوا عليها كما تعودوا الاستخفاف بها لأن ما من هدف لها سوى ثنيهم عن التمادي في كل مطالبة مشروعة بكل حق لهم طبيعي.

ـ س: ما هي بعض الممارسات العنصرية التي اعترضت طريقك لإثبات مكانتك كشاعرة أمازيغية تكتب باللغة العربية؟

ـ ج: عند ظهور أولى نصوصي والتي تحمل على عاتقها مسؤولية الدفاع عن كرامة الإنسان الأمازيغي ظهر إقبال على كتاباتي من طرف المتلقي المغربي، وذلك على الأقل بالجهات التي يتواجد فيها الأمازيغ بكثرة والتي مازالوا يتمتعون فيها بروح غيورة على كل ما هو أمازيغي من أرض وتاريخ وثقافة . لكن وموازاة مع ذلك الإقبال تمت عرقلة كل ما من شأنه أن يشجع كاتبة أمازيغية على التمادي في خطابها الشعري الأمازيغي الروح، العربي اللسان، الشجاع المواقف.

لقد بدا واضحا فيما بعد أن ما لمسته من تسامح وترحيب من طرف بعض الجرائد التي نشرت نصوصي، وكذلك من بعض المثقفين والمسؤولين المغاربة الذين شجعوني، عربا كانوا أو أمازيغيين، لم يكن بريئا بل لغرض تجاري صرف أو لمصلحة شخصية أو لمجاملة عابرة ليس بإمكانها أن تقدم الشيء الكثير لتجربتي، بل كان تشجيعي، بالنسبة للبعض منهم، خطأ لا بد من تصحيحه سواء بتجاهل لاحق، أو بإقصاء لازم، أو بنصائح صادمة انبعثت منها رائحة المكر والحقد قوية كريهة.

ذلك أنهم لم يكونوا ليجدوا في أشعاري واجبا وطنيا، ولا موقفا إنسانيا شجاعا، بل مجرد كتابات ذات نزعة عرقية عنصرية أو حتى مجرد مراهَقة متأخرة يجب أن تغتفر لي في انتظار نضجي الآتي.

هذا على مستوى النشر الورقي واللقاءات الثقافية، أما على مستوى النشر الرقمي فالممارسات العنصرية كانت جد مؤلمة، خاصة وأنها صدرت عمن يعتبرون أنفسهم من كبار المثقفين العرب.

فما أن انتبه هؤلاء إلى الحمولة الأمازيغية لكل نص أنشره، موقعا باسم شاعرة أمازيغية ومن المغرب الأمازيغي الكبير، حتى انهالت علي استفسارات لم يمض عليها بعض وقت حتى تطورت إلى اعتراضات قوية، فاتهامات خطيرة، فشتم وتجريح بهدف لا النيل فقط من تجربتي الشعرية ومن قناعاتي الراسخة، بل ومن عِرضي كامرأة أمازيغية تبدو لهم ساقطة، لا غاية لها، في نظرهم، غير إفساد الأخلاق والدين والمجتمع. كما تجاوزوا شخصي إلى الإساءة إلى كل الأمازيغ وللثقافة الأمازيغية.

بل كان منهم من بعث إلي برسائل إلكترونية يضمنها رفضا واستنكارا، أو شتما وتهديدا أو تحرشا جنسيا أو دعوة إلى الاهتمام بالقضايا العربية. رسائل اضطررت معها إلى التخفيف من نزعة التمرد والرفض في بعض النصوص أو حتى حذف نصوص بكاملها ، فقط مخافة أن أتسبب للقضية الأمازيغية في عكس ما كنت أنوي إنجازه من أجلها، وذلك جراء ما قد يبديه كل قارئ متسرع من سوء فهم، أو ما قد يصدره من حكم لا يتعدى ظاهر النص إلى ما تحمله روحه من قيم إنسانية أخلاقية عالية.

أضف إلى ذلك ، كمظهر من مظاهر التعامل العنصري مع تجربتي، ما ألاحظه من غياب النقد النزيه البعيد عن كل التأويلات الإيديولوجية الظالمة. فبالرغم من أصالة كتاباتي وحسب أقوال وتعاليق المناوئين أنفسهم، سواء من حيث الموضوعات المتطرقة إليها أو درجة الصدق والعمق والجرأة التي تناولت بها تلك الموضوعات، فإن هذه الكتابات لا ينتبه لها النقد الجاد النزيه وبالشكل اللائق بها.

كما أن الذين يراسلونني وأمدهم بما يجب من نصوص أو كتب لإنجاز ما يقترحونه من دراسات لا يفون بما يعدون به، أو لا يتمكنون من نشر ما يكتبون، سواء كان دراسة نقدية جادة أو قصائد تضامن معي أو حوارات صحافية أو مجرد تعاليق حول ما أنشر هنا وهناك، وذلك بسبب الرقابة التي تجد في كتاباتي وفي كل تضامن معي أو تشجيع لي خطرا على الوجود العربي الإسلامي في شمال إفريقيا.

ولعل ما قامت به بعض المواقع من إغلاق لأبوابها في وجهي، أو حذف لكل نصوصي المنشورة بها حين فطنت لروحها الأمازيغية القوية ليعتبر في نظري من أقوى مظاهر العنصرية الناتجة عن الخوف من الانبعاث الأمازيغي ومن سوء فهم لعدالة المطالب الأمازيغية.

ـ س: هل وجدت/تجدين نقاط تشابه مع كتاب أمازيغيين آخرين كتبوا/يكتبون بلغات غير اللغة الأمازيغية مثل محمد خير الدين، محمد شكري، مولود معمري، كاتب ياسين، مثلا؟

ـ ج: أعتز أيما اعتزاز بهؤلاء جميعا وخاصة بالمغربيين محمد شكري ومحمد خير الدين، وما تذكيري القارئ العربي بأصلهما الأمازيغي في كل مناسبة يذكر فيها اسماهما سوى شكل من أشكال ذلك الاعتزاز. أفعل ذلك تصحيحا مني لذلك التقصير الذي يقترفه الإعلام والنقد لدينا في التعريف بكتابنا الأمازيغ الذين يحسبون على ثقافات أخرى (حسب اللغة التي يكتبون بها) لصالح تلك الثقافات، وتفقيراً لثقافتنا الأم، وبالتالي الحكم عليها بكل اندثار تدريجي.

أما سؤالك عما يمكن أن يوجد من تشابه بيني وبين هؤلاء فأقول بأن التشابه حاصل فعلا. لا أبغي بذلك أن أرفع من قدري بالشكل الذي يجعلني من وزن هؤلاء الكتاب الأمازيغ الكبار، بل لأسجل فقط تشابه الظروف الاجتماعية والنفسية التي خلقت منا جميعا هؤلاء الكتاب الأمازيغ ذوي الاتجاه المتميز والذين لم يكتبوا بلغتهم الأم ومضوا، الأحياء منهم والأموات، وفي صدرهم ما يشبه حسرة مفادها لو أنهم فقط أخلصوا لهذه اللغة بجعلها الوعاء المشرف لتجربتهم الحياتية والشعرية، وباتخاذها الوسيط الأمين الوحيد بينهم وبين الذاكرة والشعب الأمازيغيين.

نعم أشبه هؤلاء الكتاب الكبار بما أحسوا به (كباقي الأمازيغ) من عنصرية معالمها الإقصاء والإفقار وكل أشكال إهانة الأمازيغ وهم على أرض أجدادهم. فمنذ طفولتي المبكرة وحتى مرحلة الدراسة الثانوية كنت أتعرض للشتم بسبب أصلي الأمازيغي، مما كان له الأثر السيئ على نفسيتي.

وهو سلوك عنصري ما زال، للأسف، ساريا في المجتمع المغاربي، ولم تسن لحد الآن أية قوانين لردعه ومعاقبته تمعنا من السلطات في استخفافها بمشاعر وكرامة الإنسان الأمازيغي. إنه سلوك يقوي الإحساس بالظلم، بل والإحساس بضرورة التمرد والاحتجاج دفاعا عن كرامة الوجود الأمازيغي خاصة وأن ذلك السلوك يمارس على هذا الوجود وهو على أرضه وفي عقر داره.

وكم يصير التمرد حقا مشروعا حين نلاحظ أن تلك الشتائم والإهانات تصدر من أولئك المنحدرين من أسر عربية غنية، أسر تستغل خيرات الأرض الأمازيغية وتذيق السكان الأصليين الكثير من البؤس بسبب سياسة التهميش المتبعة ضدهم، وهي شتائم كانت وستظل مصدر إحساس بالغبن ودافعا لكثير من التمرد والرفض.

على أن شتم الآخر لي شخصيا بسبب اختلافي العرقي والثقافي لم يكن ليدفعني إلى الإحساس بالخجل من ذاك الاختلاف، بل كان دافعا قويا إلى الرغبة في رد الاعتبار له سواء بالاعتزاز العلني به، أو بالحرص على تشريفه في كل مجالات الحياة ضدا على كل احتقار وإلغاء وإذلال، شأني في ذلك شأن كل الأمازيغ الأحرار داخل المغرب أو خارجه.

لقد كان ممكنا لهذا النوع من الانتصار لاختلافي الثقافي أن يأتي كاملا لو كنت أبدعت نصوصي بلغتي الأم لغتي الأمازيغية، ولكني لم أجد غير اللغة العربية وسيلة أتقنها نتيجة حتمية لسياسة التعريب المتبعة لدينا، فوجدتني أستعملها للرفض والصمود والتحدي، ودفاعا عما تبقى من ملامحي الأمازيغية ومن شخصيتي المغربية أمام سياسة التعريب وباقي جرائم الإلغاء والمحو.

إن اللغة العربية ليس لها أي حضور مقدس لدي. لقد كانت في نظري وما تزال مجرد وسيلة لا أكثر، وسيلة أستغلها لإبلاغ رسالتي الإبداعية والإنسانية لأصحاب هذه اللغة أعداء هويتنا الأمازيغية وحقوقنا المشروعة. لذا أعتبرني كاتبة أمازيغية حتى النخاع ناطقة فقط بالعربية.

في كل ما ذكرت من إحساس بالقهر مع الرفض له، ومن اعتزاز بالانتماء والتشبث به، بل والغيرة عليه والرغبة في تشريفه أجدني أشبه إلى حد التماهي، وبشكل خاص، كلا من محمد شكري ومحمد خير الدين اللذين كانا يصران على ضرورة إنصافهما بإرجاعهما إلى الثقافة الأمازيغية رغم استعمال الأول للغة العربية ، والثاني للغة الفرنسية.

ـ س: إلى أي حد تعتبرين الكتابة بلغة أخرى غير اللغة الأم منفى ثقافيا؟

ـ ج: اللغة كتجل من تجليات الثقافة العديدة، بل وكوعاء أساسي لها، لا تحدد فقط هوية جماعة بشرية ما وتميزها، بل هي الضامن الأساسي لاستمراريتها وبقائها، لذلك نجد أن إستراتيجية كل غزو لتسهيل السيطرة على شعب ما ثم القضاء عليه تعتمد على ما هو ثقافي بالأساس، وما لغة أي شعب سوى جزء هام من هذا الأساس الثقافي.

إيمانا منها بجدوى هكذا إستراتيجية خبيثة ـ أثبت واقع الشعوب المستعمَرة  نجاحها ـ نجد النخبة العربية الحاكمة لدينا تعمد إلى فرض لغتها فرضا وتصرف عليها من أموالنا لحمايتها وتطويرها بل وتحاصر، في المقابل، لغتنا الأم حتى لتظل مجرد رموز في اللوحات الفنية والزرابي التقليدية ورسومات الحناء، رموز تريد منها هذه النخبة أن تذكرنا بشيء واحد: أننا مجرد أطلال لمجد ولى وزمن انقضى.

وأن تستمر نفس النخبة في سياسة الحصار تلك حتى لا نجد من وسيلة للكتابة وللتعبير عن ذاتنا سوى لغتها هي، كل ذلك لَيعتبر إبعادا ثقافيا بل نفيا أخطر من كل نفي لأنه بكل بساطة جريمة قتل عن سبق إصرار وترصد.

والحال هذه أرى أنه إذا كان من حق محمود درويش أن يحن في منفاه إلى خبز أمه وقهوة أمه، لأنهما من رموز الأرض التي "شرد" منها وبها وجوده وبقاؤه، فمن حقي في منفاي الثقافي هذا (أي في حرماني من لغتي الأم من قبل هذه النخبة العربية وعلى أرض أجدادي) أن أحن إلى كل ما أفتقده من مقومات وجودي الكامل داخل وطني وهو حنين مزدوج:

ـ حنين أول، مثل حنين محمود درويش لا فرق، وهو لخبز أمي وقهوة أمي على اعتبار أن أغلب فقراء المغرب وأغلب اللذين اضطروا إلى الهجرة هروبا من سياسية التفقير التي تسلكها الدولة هم من أصل أمازيغي بعد أن سلبتهم أراضيهم بوسائل مختلفة وتحت ذرائع شتى.

ـ وحنين آخر وهو إلى لغة أمي، وغناء أمي، وحكايا أمي، ورقص أمي، وكل أشكال تعبير أمي وباقي الأمهات الأمازيغيات عن وجودنا الجماعي واختلافنا الثقافي، أشكال إن استطعن الحفاظ بها على هويتنا الأمازيغية، على مدى قرون من الغزو الثقافي العربي، فإنها تواجه معنا الآن، نحن الأجيال المعرَّبة، خطر الانقراض خاصة إن نحن لم نسرع إلى تداركها ومعها وجودنا، تداركا ليس له أن يكتفي بالاحتجاج والمطالبة بالإنصاف، بل عليه المرور إلى تفعيل وجودنا وثقافتنا وكرامتنا بكل وسائل الضغط الممكنة، لا بمجرد انتظار العفو والرحمة من النخبة العربية الحاكمة.

ـ س: هل هناك فوائد ثقافية أو فلسفية في هذا الابتعاد اللغوي/الثقافي؟

ـ ج: لا أعتقد أن الاقتصار الآن على الكتابة بلغة معيارية غير متداوَلةٍ بحروفها الأصلية كاللغة الأمازيغية، وعلى نطاق شعبي واسع، سيحقق للأمازيغ ما هم في حاجة إليه من التواصل مع الآخر بهدف التعريف بوجودهم وبثقافتهم وبعدالة قضيتهم، ولعل ذلك راجع إلى الوضعية المزرية التي تعيشها هذه اللغة بسبب الحصار المفروض عليها.

فكم صدمت، أنا الكاتبة الأمازيغية الناطقة باللغة العربية، بأسئلة غريبة طرحها عليَّ كثيرون من مناطق مختلفة من العالم بل ومن داخل المغرب أيضا (!) أسئلة مؤلمة من قبيل: من أنتم أيها الأمازيغ؟ من أين أتيتم؟ هل بلدكم هو منطقة القبايل بالجزائر أم ماذا؟ هل أنتم أغلبية أم أقلية؟ هل انقرضتم فعلا أم أنتم مازلتم على قيد الحياة والوجود؟

لذلك وأمام هذا الجهل الفظيع بوجودنا وقضيتنا أرى أن هذا الابتعاد اللغوي/الثقافي ـ على الرغم مما فيه من خيانة للغة والثقافة الأم ـ مفيد جدا في تعريف الآخر بالذات والثقافة الأمازيغيتين كنوع من الترجمة المباشرة عن هذه الذات.

وأعتقد أن ذاك ما نجح فيه مثلا كل من محمد شكري ومحمد خير الدين في مجال الإبداع الأدبي. فقد عرَّفا من خلال كتاباتهما بالذات الأمازيغية وظروف عيشها وآلامها وطموحاتها وكل ذلك من خلال اللغة الفرنسية أو اللغة العربية. فلو أن محمد شكري واصل الكتابة بالأمازيغية بعد تلك الجمل الأمازيغية التي استهل بها مثلا روايته "الخبز الحافي" لما رأيناه يحقق ذاك النجاح الذي عرفته كتاباته عامة داخل المغرب وخارجه.

بل إن الفضل في ذلك النجاح يعود كما هو معلوم إلى ترجمة روايته تلك وباقي كتاباته إلى اللغات العالمية الحية وبعيدا عن اللغة العربية نفسها التي كتب بها والتي يصر أهلها ـ تخليدا منهم لتلك العادة السيئة في سرقة عباقرة العالم من ثقافتهم الأصلية ـ على إلحاقه بثقافتهم على اعتبار أنه "روائي عربي عالمي".

إن هذا الابتعاد الثقافي يساعد الكاتب الأمازيغي على إيصال خطابه الإبداعي والإنساني إلى الآخرين، وبالدقة التي يريدها ودرجة الأمانة التي يتوخاها، مختصرا بذلك كثيرا من الوقت والمجهود، ومجتنبا كثيرا من الأخطاء الناجمة عن عدم قدرة الترجمة على نقل روح النصوص الأصلية وغاياتها النبيلة خاصة حين تكون تلك النصوص نصوصا شعرية، وهو ما أستفيدهُ شخصيا وثقافتي الأمازيغية من الكتابة باللغة العربية التي حاولت، وما أزال، أن أوصل بها معاناة شعبنا الأمازيغي إلى الأوساط الثقافية العربية، وأتمنى أن أكون بهذا الصدد قد حققت ولو بعض نجاح.

ـ س: كيف ترين مستقبل الكتابة باللغة الأمازيغية؟

ـ ج: لاشك أن مستقبل تلك الكتابة مرتبط بشكل وثيق بضرورة فرض تعلم اللغة الأمازيغية على كل طفل طفل مغربي، وفي كل مستويات الدراسة ، وكذلك بتفعيلها في كل مرافق الحياة. هنا لا بد من أن يقوم المسؤولون، كل في مجال اختصاصه، بكل ما من شأنه أن يساعد على تحقق هذا الشرط إيمانا منهم جميعا بأن ما يقومون به واجب لا يقل عن باقي الواجبات الوطنية إلزامية، وبأن كل تهاون في أدائه هو تهاون وتواطؤ ضد تحقيق الديمقراطية المرجوة.

على أن مهمة تحقيق مشروع وطني نبيل كهذا تتطلب دسترة اللغة الأمازيغية وترسميها، بهذا فقط يمكن لها أن تصير لغة الدولة ولغة التدبير والتسيير ولغة الخلق والإبداع تماما كما كانت دائما لغة الشعب والتواصل اليومي في البيت والشارع . فلا إمكانية للكتابة باللغة الأمازيغية إن لم تصبح هذه اللغة هي الحياة عينها، تعاش في كل لحظة، وفي كل مجال، وفي وضح النهار تحت الحماية القانونية اللازمة، أي دون أدنى حصار أو رقابة، أو استخفاف وسخرية.

إن اللغة الأمازيغية ـ من غير تلك الحماية القانونية اللازمة ـ ستظل منحصرة، كلغة خلق وإبداع، في نخبة صغيرة جدا من المثقفين المغاربة، وكلهجات تواصل شعبي في أسر ومناطق أمازيغية مازالت النخبة العربية الحاكمة تخطط بكل وقاحة لتعريب ما تبقى من وجدانها وشخصيتها وتلح على ذلك أيما إلحاح. وهي وضعية مأساوية لا شك أن استمرارها غاية كل المناوئين للهوية الأمازيغية للمغرب ولكل شمال إفريقيا أرضاً وشعباً.

هنا دعني أنتهز الفرصة لأوضح نقطة جد مهمة وهي أن هؤلاء المناوئين العرب ينسون أنهم، ومهما كان أصلهم، مواطنون أمازيغ وبالتالي فإن اللغة الأمازيغية التي يعادونها هي لغتهم أيضا. فكل فرد من أفراد الشعب المغربي حامل للجنسية الأمازيغية بالضرورة وذلك بحكم عيشه على أرض أمازيغية، فالأرض هي التي تمنح صفتها للإنسان لا الإنسان. فنحن نرى من حولنا أن الدول الغربية المستقبِلة للمهاجرين وللأجانب هي ما يمنح هؤلاء جنسيتها إما بحكم الولادة فيها أو العيش الطويل الأمد على أراضيها لا العكس.

لذلك لا أفهم منطق عرب المغرب وباقي شمال إفريقيا المقيمين على أراضينا حين يريدون أن تكون هذه الأراضي استثناء على هذه القاعدة الكونية، أي أن تصير عربية بدل أن يصيروا هم أمازيغيين بحكم عيشهم عليها واستفادتهم من خيراتها.

هنا يحضرني تصريح للرئيس الجزائري الحالي في إحدى خطبه مؤخرا في الشعب الجزائري يقول فيه: "نحن كلنا أمازيغ عربنا بالإسلام". وهو تصريح ـ إن كان صحيحا حسب ما ورد في بعض المصادر ـ يسجل له بعدَ كل جرائم القتل الفظيعة التي ارتكبها نظامه في حق الشعب، تصريح يحمل تباشير تحول شجاع في الذهنية العربية عامة مفاده ضرورة الاعتراف بأمازيغية شمال إفريقيا وكل شعوبها، هذه الشعوب التي لم تكن أصلا سوى شعب واحد هو الشعب الأمازيغي الصامد.

بهدف أن يقتنع عرب المغرب وشمال إفريقيا بعدالة القضية الأمازيغية أستشهد هنا بما يستشهد به أستاذ الأدب المقارن الدكتور أحمد درويش في كتاب له يحمل عنوان: إنقاذ اللغة‏..‏ إنقاذ الهوية (غير أن اللغة عنده هنا هي اللغة العربية كما أن الهوية ليست لديه هنا سوى الهوية العربية، وفي رأيي ورأي كل إنسان عاقل عادل أن ما يحق للغة والثقافة العربيتين في أوطانهما يحق أيضا وبنفس القدر للغة والهوية الأمازيغيتين على أراضيهما) أقول أستشهد هنا بنفس المقاطع ومن نفس القصيدة التي استشهد بها الدكتور أحمد درويش وهي، قصيدة الشاعر الصقلي إجنازيا بوتينا وعنوانها: "لغة وحوار" تقول ترجمتها‏:‏

ضع شعبا في السلاسل/جردهم من ملابسهم/سد أفواههم/لكنهم مازالوا أحرارا‏.
خذ منهم أعمالهم/وجوازات سفرهم/والموائد التي يأكلون عليها/والأسِرَّة التي ينامون عليها/لكنهم مازالوا أغنياء.‏
إن الشعب يفتقر ويستعبد/عندما يسلب اللسان/ الذي تركه له الأجداد/وعندها يضيع للأبد‏.