الأحد، سبتمبر 28، 2008

الناقد العراقي جمال المظفر : قراءة في سيرة النهد الأمازيغي : مليكة مزان نموذجاً

يدخل الجنس في الأدب مدخل المحرض الواعي لكل أشكال الاضطهاد الفكري والجسدي والسياسي ، ويبتعد عن المعنى الإغرائي الذي يتخيله البعض بشكله العام . أدلجة الجنس لأغراض سياسية ومنحه صفة الثورية وسيلة ٌ لولوج عالم التحرر الجسدي والفكري ، متعة القراءة أمام متعة الانفعال .. ممارسة التعري اللغوي بكل حرية دون قيود اجتماعية أو سياسية ...
قد تكون ثورة النهد أعنف من الثورة الشعبية أو الانقلاب السياسي والعسكري ، الثورة الجسدية أو الجنسية وسيلة لتحرير الأنثى من حالة النكوص والاضطهاد الذي تفرضه المنظومة الاجتماعية على الإناث ...
في قصائد الشاعرة الأمازيغية مليكة مزان يبرز البوح الانثوي والممارسة العلنية بصوت عال ، البحث عن الهوية المفقودة التي تناضل من اجلها عبر البوح اللغوي الصارخ ، بوح الجسد ، بل بصرخة النهد الذي يمثل مركز الثورة في جسد الأنثى :
من كفرٍ إلى كفرٍ
أكتبُ سيرة َ النهـدِ ،
فماذا عنكَ أيها النهـدُ
وأنتَ بغير جراح ِ الأمازيـغ ِ لا تعـودُ ،
بغير انصعـاق ِ الحـبْ ؟!
مليكة شاعرة ثائرة على التقليدي ، الغضب الشعري عندها يمثل قضية شعب لا قضية جنس ، متمردة على النظام القبلي والعشائري ، تخلخل حواس الآخر من خلال لغة البوح المباشر ...
الشاعرة تشتغل على منطقة النهد باعتبارها المنطقة الأكثر إثارة لدى المرأة ، وهو منطقة الشد البصري للآخر ، فهي ترى أن الجسد يتكلم ويحاور ، يثير ويستفز ، يقاوم ويجاري ، وبقدر ما يقاوم الإغراءات فانه يبحث عن منطقة للسلام ، لذلك استخدامها للغة الجسد استخدام إيديولوجي لا استخدام جنسي كما يتوقعه البعض ، الجنس لديها ليس متعة ولذة ونشوه ، انه قضية بحجم شعب يبحث عن هويته :
رب نهد لنشوة السكرِ
إلا نهديَ الأطلس المرُ
رب نهد لزينة الصباحِ
ونهديَ لأمازيغ الجراح ْ
النهد الأمازيغي لديها يمثل الخصوبة والأمومة والثورة ، أي أنها من خلال النهد الذي يراه المجتمع الشرقي مكان للإغراء الجنسي تراه هي منطقة استصراخ للضمائر ومحاولة لاسترداد المستلب من حقوقها ، لا تنسى بأنها أنثى ، لها اشتهاءاتها ورغباتها ، ولكن أمام القضية يصبح الجنس له دلالات أخرى :
هل رأيتم جسداً
في .. مثل اشتهائي ،
أو .. مثل انكساري ،
أو .. مثل اكتئابي ؟
شاعرة تقف بالضد مما هو عرفي وسائد ، التقاليد والمعتقدات الاجتماعية والدينية والسياسية ، ثائرة على طول الخط ، تعتبر التعري وسيلة من وسائل التحرر الفكري والانطلاق نحو مناطق أكثر تعبيرية ...هي لا تعرض جسدها للبيع أو المتعة ، العرض هنا مجازي ، عرض الجسد مقابل الحرية ، استلاب النظر إلى قضيتها ، المنطقة التي يقف عندها كل مطالب بحقوقه ، ليس كل ما يكتب عن الجنس هو جنس ، وليس كل جسد يطرح على الورق مباح للمتعة :
قبل أن تحن لنهدي ..
تبين أولاً ملامحكَ بين الجثثْ !
هذه اللغة الثورية هي لغة التحدي ، فالنهد مطروح في داخل النص ، قد تتخيله وربما تحن إليه ، ولك الحق في أن تشتهيه وتتخيله وترسم وتؤسس لشكل ذاك النهد ، حجمه وتضاريسه ، ولكن هل بالإمكان الاستيلاء على هذه المنطقة التي تعتبر اشد مناطق الأنوثة حيوية ويمثل ذات الأنثى ، فالكثير من النساء الغربيات والعربيات يعتبرن منطقة النهدين أكثر مناطق الجسد أنوثة وجاذبية ويلجان إلى تكبير صدورهن وباتت عمليات زرع السيلكون شائعة في الغرب ، ولا ننسى قضية الممثلة الفرنسية مس لولو التي كبرت ثدييها بحيث أصبح وزنهما عشرة كيلوغرامات وماتت بسببهما ... أو الشهرة التي حصلت عليها باميلا أندرسون صاحبة أجمل نهدين في العالم وباتت صورها تتصدر أغلفة الصحف والمجلات وراح الكل ينظر إليها ويتابع آخر صرعاتها :
وليمة المرضى
من الكلاب والذئاب ِ ،
من الأصنام والأرباب ِ..
هو هذا النهدُ :
عقل لا يَجدُ معناهْ
إلا وقد تقيحتِ الصلاة ْ !
كيف يمكن كتابة سيرة نهد ، هل يكتب عن استدارته ، ثورته ، كرزاته ، تاريخه ، أول إنسان روضه ، من اكتشف انه مكان الهيجان والعنف الانثوي ، حواريته ، اضطهاده ، صمته الصارخ ، عريه ، همسه ، نضاله السري خلف حمالاته ، صعب للغاية كتابة سيرة نهد في المجتمعات الشرقية ، ولكن مليكة مزان تمردت وكتبت تلك السيرة بعنف أنثى لم يحدها شيء سوى مساحة الفكرة / النص :
من كفرٍ إلى كفرٍ
ها أكتبُ سيرة َ النهـدِ
وما فتح الربﱡ جنتـهُ الأحلى ،
وما تبـرأ الربﱡ
من كل عاهري الشـرقْ !
عرض النهد في الأدب العربي يعتبر عورة لغوية ، تتجاوز حدود المسموح ، والخوض في تفاصيل الجنس يعد تجاوزا على الأخلاق والآداب العامة ...استخدام الشاعرة للجنس ليس للمتعة وإنما من اجل هدف أسمى ( هذا نهدي فاغنموه ) هذه اللغة ليست عرض لعضو أنثوي بالمعنى الجنسي ، وإنما لغة تحد للأخر ، أي هذا نهدي ولكن ليس بإمكانكم أن تغنموه :
وأنت تهرولُ ..
إلى ما قيل َ أنها نشوتكَ ..
لا تنس
ألا نشوة لكَ ..
خارج الخطابْ !
في قصائدها تكرر الكثير من المصطلحات بإيقاع سريع ( النهد ، العهر، الأصنام ، الذئاب ، الأرباب ، الجحيم ، النشوة ، التمرد ، الانعتاق ) وتلك المفردات هي مركز اهتمامها ..
تقول في احد لقاءاتها الصحفية : لأني أفترض دائماً أن ثمة قارئاً لقصيدتي أذكى مني ، ولأني أخشى أن أخيب انتظارات هذا القارئ لا أتردد ، لحظة الكتابة ، من المضي بذكائي الخاص إلى نوع من المكر الحلال ، مكر أضمن معه أصالة القصيدة وقوتها ، ومن ثم أضمن دهشة القارئ وتفاعله معها ووفاءه الدائم لها :
فلأسبحْ ..
باسم نهديَ الذي خلقْ ،
خلق الكفرَ
مِن كل رفض أو أرقْ
جرأة الشاعرة في توظيف مفاهيم تحررية والمحافظة على دلالاتها اللغوية لتخدم في النهاية فكرتها الكامنة في الباطن والمستفزة لذات القارئ غاوية إياه لدخول منطقتها ، منطقة الاشتغال الشعري / اللغوي ، إغواء القارئ إلى المناطق الأكثر خصوبة وجاذبية ، المناطق الناضجة لدى المرأة تغوي للتأمل والتخيل والاستغراق :
ولو كان لي عقلٌ واحدٌ ،
ولكنه التعددُ في النهودِ ،
ولكنها أجندة ُ الربْ !
في قصيدة ( نهدي سلاحي المجيد ) تبرز بوحها العالي ، بأن النهد هو السلاح اللغوي الذي تقاوم به الاضطهاد الفكري والسياسي ، ليس لديها سلاحا كالمتعارف عليه ، وإنما هو هذا النهد الأمازيغي الذي يعلن تمرده على كل ما هو مقدس ، تحاول أن تجعل من الشعر وسيلة للوصول إلى ما تصبو إليه بان للأدب رسالة يمكن إيصالها إلى كل الشرائح ، قصائدها عنيفة صاخبة ضاجة عارية من التورية ، تختار عناوينها بدقة من اجل استلاب القارئ إلى القصيدة / العنوان :
نهـديَ ،
سلاحيَ المجيـدْ ..
ما زال السفر مراً، وكذا النشيـدْ
فرغم تلك اللغة المباشرة التي تبرز حالة التحدي للآخر ، ورغم الانزياح اللغوي إلا أنها تثبت ذاتها الأنثوية وما تحتاجه من أشياء تحرك السواكن / الباطنية فتفضح تلك النصوص الداخلي وتعومه إلى خطاب خارجي ، معادلة متوازنة مابين الداخلي والخارجي ، الذاتي والموضوعي ، تمنع جسدها عن الآخر ضمنيا لكنها تصون الذاتي ، لا تنسى أنها أنثى وتحتاج إلى الآخر حتى لو كان في الخيال :
...
أنكَ
ممنوعٌ من كل جسدِي ،
أني عارية ٌ..
إلا منـكَ ،
إلا من ذاك الإيقـاعْ !
العهر كمفهوم اجتماعي يدل على حالة السقوط الأخلاقي ، استباحة الجسد ، ولكن قد يكون هذا السقوط لغويا أو سياسيا أو فكريا ، العهر الجسدي لا يقل عن العهر السياسي ، ولكل امرأة عهرها ، اشتهاؤها للرجل الذي يقطن في مخيلتها بعيدا عن الرقابة الاجتماعية والأعراف والتقاليد ، فما يحظر على المرأة على ارض الواقع يتحرر في المخيلة ويمكن خداع الأسرة والمجتمع بممارسة الجنس في الخيال الواعي بعيدا عن سلطة العائلة والمجتمع :
سيدتي ..
لكل عاهرةٍ .. رجال وورودْ ،
وأنا ..لي .. أرصفتي ،
لي .. انتظاري ،
لي .. صدمة الشرود ْ ،
كلما أبصرت ثغراً يشبههُ ..
قلتُ :
هذا وطني !
ينطفئ كل ثغر وأعودْ ..
المرأة العربية ترضخ بصورة عامة لمنطق الاستعباد والاستغلال واستلاب الحرية ضمن قوانين المجتمع الصارمة التي تفرض الوصاية على الأنثى ، بالإضافة إلى السلطة الدينية التي تمارس ضغطا قويا غير قابل للنقاش أو حتى إعادة النظر في القوانين الوضعية والصورية ، بإمكان الأنثى / الشاعرة أن تمارس العلاقات الحميمية مع فكرة النص / الموضوعة / فالفواصل مناطق تأمل واستدراك :
هذا المدى
بأقلﱠ من شرائع الطغي ِ لا يقنعُ ،
حول نهديَ
أضرمتُ الجحيمَ ، فليسرع
ِكلﱡ ربﱟ إلى نشوتهِ !
العهر لديها هو الأورام والأوجاع وتركات المجتمع ، حالة النكوص التي تعانيها الأنثى ، تخاطب الآخر بـ ( ظننتني ) أي أنها لا تقع ضمن دائرة هذا الوصف وان لديها المخدع والسرير والجسد والرجال والشرفات ومباحة للجميع في كل الفصول ، فصول السنة والخطابة والبوح الشعري ، هذا الظن ليس في محله لان عهرها هو تلك الآلام والعجز أمام استخلاص الحقوق من الآخر :
العاهرة َ ظننتـُني ،
ولديﱠ الرجالُ ،
والشرفاتُ والوردُ والفصولُ ؛
وما العاهرة ُ ، ويلي ،
غيرُ أورامي ،
وعجزي عن صنع انتقامي !
في خطاب لها إلى الدكتورة وفاء سلطان عبر قصيدة أهدتها لها تقول في إهدائها : إكراماً لها في كل أبراجها الفكرية العالية ، وانتقاماً من عديمي الضمير والعقل (أشباه الرجال ) حسب قولها ممن ابتليت بهم المرأة في عالم العقلية العربية المتعفنة ، أولئك الذين إذ تقهرهم بفكرها وتنورها وشجاعتها وطهرها لا يجدون شيئاً يدافعون به عن غبائهم وترديهم غير شتمها ومعايرتها بالكبت وبدم الحيض والنفاسْ ! ) .. !!
هذه اللغة الانفعالية الصاخبة لا تستثني أحدا ، نظرة المرأة المتحررة إلى الشخصية الذكورية العربية التي تنظر للمرأة نظرة دونية ، تنتقص من شخصيتها ، المرأة التي تدفع ثمن جريمة تاريخية لا دخل لها بها ، فدائما ما يحمل الرجل المرأة سبب تعاسته ، بل البشرية كلها من خلال استجابة حواء إلى غواية الشيطان عبر التفاحة التي أنزلتهم إلى الأرض :
ماذا لو أشفقُ على الربﱢ ..
وأعلنني جسداً بلا نهدْ ؟!
صلب النهد ، لغة تعتمدها الشاعرة للتعبير عن حالة الإحباط والتقييد الاجتماعي المفروض عليها ، الجسد يصلب النهد ، يقيده ، يحد من حركته ونضاله وحريته ، يبقى أسير سجنه الدائم ، يتوارى خجلا من كل النظرات والإيماءات اتقاء هذا الكون أو العالم المختل الهواءات والاشتهاءات والرغبات :
هكذا تـنفضحُ التفاهة ُ ..
في أقصى التجلي ،
هكذا يَصلبُ الجسدُ نهدَه ُ ..
اتـقاءَ كون ٍ ..
مختلﱢ المد والجزرْ !
مغازلة الجدار رمز للأعراف والتقاليد الاجتماعية ، الممنوعات ، المحرمات ، تكتب بذات الأنثى التي تثيرها الحروف مثلما تثيرها الإغراءات الجنسية ، حركة أي حرف على الورقة يمثل حركة أي عضو أنثوي يستثار ، ما تعكسه الحروف هو الإحساس الداخلي للذات الباثة :
لا جدوى ..
من مغازلة الجدار ِ ،
فلِمَ إلحاحي على الفصول ْ ؟!
بل أصوﱢبُ النهدَ ..
رشاشاً ..
أصيلَ الغنائم ِ والطلقات ْ !
جدير بالذكر أن الشاعرة مليكة مزان أصدرت خمسة دواوين شعرية :
1 ـ جنيف .. التيه الآخر / 2004
2 ـ لولا أني أسامح هذا العالم / 2005
3 ـ لو يكتمل فيكَ منفاي ( قصائد / رسائل مفتوحة إلى مناضل أمازيغي / 2005
4 ـ حين وعدنا الموتى بزهرنا المستحيل / 2007
5 ـ متمرداً يمر نهدكِ من هنا / 2007
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دراسة من إنجاز :
الناقد والشاعر والصحافي العراقي :
نقلاً عن موقع :