الأحد، أبريل 25، 2010

مليكة مزان : أدونيس ومحمود درويش ضيعا عمرهما في الدفاع عن ثقافة عروبية استعمارية


(حوار أجراه الإعلامي السوري الكوردي حسين أحمد)

مقدمة الحوار:

"لعل الشاعرة الأمازيغية المتمردة مليكة مزّان تتميز بخصوصية وتفرد في الكتابة الشعرية من حيث طرحها موضوعات حساسة برؤية مغايرة غارقة بالدهشة تارة، وبالغرابة تارة أخرى. فالكتابة، وتحديداً القصيدة لديها، حالة حياتية صارخة محرضة، وإشكالية في الطرح لمجمل قضايا مجتمعها وبحرية منفلتة. ومليكة مزّان تؤمن بالحوار، وتؤمن بالتغيير، وتؤمن بالنقد التفكيكي، وتؤمن بالحداثة الشعرية إلى حد المجون والجنون.

كما أن مليكة مزّان ترفض بشراسة القصيدة الموسومة بالرتابة والتكرار والسطحية والانفلاشية بمدلولها السلبي والتي تظهر في الراهن الثقافي العربي هنا وهناك. من هذا المنطلق أحببت أن أحاورها لأطرح عليها باقة من الأسئلة، أتمنى أن يحصل هذا الحوار على رضى ودهشة القراء والمكترثين بالشأن الثقافي والمعرفي والإنساني في كل مكان"*.

نص الحوار:

ـ س: من هي مليكة مزان وكيف جاءت إلى عالم الشعر والكتابة والتمرد؟

ـ ج: مليكة مزان مجرد أنثى، تريد أن تثبت بأنها الأنثى التي جاءت إلى العالم، وليس إلى عالم الشعر فقط، ولهدف واحد: أن تعترض وتتمرد، أي أن تخطط لطريقة جديدة أصيلة لمواجهة هذا العالم في بؤسه وقبحه، أي أن تؤسس لكتابةٍ ولمواقفَ تعيد بناء هذا الخراب وبمنطق الأنثى الذي هو منطق الحياة والحب والحق والنبل والجمال ضدا على أي منطق آخر، أقصد كل منطق ذكوري، سواء كان منطق إنسان أو إله أو أي صنم آخر.

ـ س: لم تكن لحظة عابرة تلك اللحظة التي ظهرت فيها الشاعرة مليكة مزّان في عالم الشهرة والكلمة، بقدر ما هو الطموح والثقة الهائلة وأداؤها الثمل بالدهشة، هذه الخواص كلها جعلتها تظهر في إطارين متباينين:

ـ ممارسة الإبداع الشعري بأسلوب مدروس من جهة.
ـ ورؤيتها السياسية إلى حد الفضيحة من جهة ثانية.

في كلتا الحالتين مليكة مزّان مولعة بالكلمة الطيبة قبل أن تكتبها وتنطقها،  فأين تجد ذاتها في كل هذا العطاء كالنبع الذي لا ينضب؟

ـ ج: أجد ذاتي في الإبداع الملتزم، أي في الكشف عن الحقيقة المغيبة. لا أؤمن بالفن من أجل الفن، الفن الذي ليس غايته نصرة الإنسان ضد اللإنساني فينا ليس فنا، والكلمة التي لا تفضح جرائم القوي في حق الضعيف ليست كلمة طيبة ولا جميلة، وعطائي في هذا المجال لا ينضب لسبب بسيط: كون نبع المعاناة هو الآخر لا ينضب ولا يمل من تفريخ كل ما يهين الإنسان من أنواع الأصنام والأوهام التي تؤثث وجودنا هذا المأزوم القلق الضائع.

ـ س: المشهد الثقافي العربي مليء بالمتناقضات الصارخة ومتأثر بشكل كبير بثقافة الأنظمة العربية الاستبدادية، كيف لمليكة مزّان أن تقوم بترميم ما صدعته هذه الأنظمة عبر قصائدها وكتاباتها وصرخاتها خاصة وأن الكثيرين سبقوها في هذا النوع من الكتابة وباتوا الآن من المغضوب عليهم؟!

ـ ج: المشهد الثقافي العربي عامة مستنقع مليء بالتماسيح التي تمتهن التحايل على الشعوب والكذب عليها بما ترتكبه من تجميل للوجه البشع للأنظمة العربية الاستبدادية ومن تكريس لسياساتها الفاسدة.

إن المثقف العربي في الشرق الأوسط وفي شمال إفريقيا عامة مثقف مخادع جبان، وفي أحسن الأحوال مثقف مستلَب حتى النخاع، لا يمكن له أن يبصر العالم والأشياء إلا من خلال منظار هذه الأنظمة ومصالحها وإيديولوجيتها الموغلة في العبث والفساد وفي إبادة الآخرين. إنه بذلك يشارك (بوعي أو بدون وعي) في تزوير الحقائق، ويمدد نتيجة لذلك عمرَ هذه الأنظمة، بدل العمل على نسفها بفضح مخططاتها وإبطال وسائل تنفيذها لتلك المخططات، وكم يكون هذا الموقف أكثر إيلاما حين يصدر من مثقفين كبار يحسبون أنفسهم على الثقافة العربية من وزن أدونيس أو محمود درويش، فهذان المثقفان ضيعا عمرهما في الدفاع عن مخطط ثقافة عربية استعمارية استغرقت قروناً لاكتساح أوطان الآخرين، مخطط مازال أساسه تزوير الحقائق التاريخية والجغرافية، ومسخ الهويات الأصلية لبلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا...

شخصيا وكمثقفة أمازيغية ناطقة بالعربية أحس بفرح كبير وأنا أرى كتاباتي وتصريحاتي تنتقل من موقع إلى آخر حاملة معول تحريك الساكن وقلب الأشياء وزعزعة الأمن الداخلي لبعض النفوس المطمئنة لأوهامها وأصنامها، والتشكيك في ما تعمل هذه النفوس جاهدة ( وأحيانا بحسن نية ) على الحفاظ عليه من الموروث الثقافي الإيديولوجي لهذه الأنظمة اللانسانية، ذاك الموروث الذي لا يمكن لهذه الأنظمة أن تظل على عروشها يوما إضافيا واحدا من دون سند قوي منه مما يفضح هشاشتها ولاشعبيتها .

أجل هذا ما أريده لكتاباتي وتصريحاتي:

مواجهة هذه الأنظمة العربية الاستبدادية، بالانقضاض على كل ما تعتمد عليه من حقائق مزورة أو فكر رجعي تستمد منه شرعيتها وقوتها. وحين أكتب أكتب لأكون، وعن سبق إصرار وترصد، من المغضوب عليهم ومن "الضالين".

لا أكتب من أجل وسام أتسلمه من أي شخص، أو من أية جهة، ولا من أجل جائزة، أو مؤسسة، أو شارع، أو ميدان يحمل اسمي بعد رحيلي، بل إني ، أثناء الكتابة، لا يهمني إرضاء أي كان، كل ما يهمني هو تلك النشوة الخلاقة التي أعيشها مع كل نص عاهر، كافر، ثائر، مدمر!

ذاك أني أعرف أن البقاء في هذا المجال هو.. للصادق، للجميل، للإنساني، للشجاع من الإبداع والنضال، وليستفرد برضا الآلهة والحكام كل مثقف يستحق شفقة التاريخ والشعوب قبل أن يستحق نجاحه الزائف وتصفيقات المستلَبين والخونة.

ـ س: ألا تعتقدين بأن من يرهن شاعريته لأية إيديولوجيا أو يكبل نفسه داخل إطار سياسي محدد لا شك هو خاسر لإبداعاته وربما لذاته أيضا أم لك رأي آخر؟

ـ ج: عندما سيخسر شاعر كمحمود درويش ذاته وإبداعاته (وهو أولى بذلك مني لأن قضية شعبي الأمازيغي وكل الشعوب الأصلية الأخرى والتي أدافع عنها هي أعدل بكثير من قضيته الفلسطينية!)  نعم عندما سيخسر محمود درويش ذاته وكل ما قاله من شعر عن "معاناة" العرب والمسلمين بفلسطين التي احتلها العرب والمسلمون بعد غزوها، يمكن لي بعد ذلك أن أخسر ذاتي وكل مشروعي الإبداعي والإنساني، لكنه أمر مطمئنة أنا تماما إلى أنه لن يحصل أبدا ما دام المنطق السليم وسيلتي وكل حقيقة تاريخية صارخة تقف إلى جانبي.

ثم إن هناك فرقا كبيرا بيني وبين درويش، فأنا أكثر كونية وإنسانية منه:

فهو إن بكى الجندي الإسرائيلي وبكى الهندي الأحمر فقد تناسى ـ على العكس تماما مني ـ أخاه الكوردي (إلا قليلا)، وأخاه الأمازيغي وأخاه القبطي وأخاه الدارفوري وغيرهم كثيرون ممن ذهبوا ضحية القومية العربية وإيديولوجيتها العنصرية التي يدافع عنها هو وأمثاله، وكل في سبيل أرض عربية وحقوق عربية لا توجد إلا في الخريطة الكبرى لأوهام العروبة المستفحلة.

ثم إن نضالي مؤسس على القيم الكونية المتفقة عليها لدى الضمير العالمي، نضال يؤمن بضرورة تمتع الجميع بكل الحقوق الطبيعية ومن دون أي ميز عرقي أو ثقافي، نضال لا يكيل بمكيالين كما يفعل أي نضال عربي يدافع عن قضايا منذ البدء هي الخاسرة.

إن نضالي ينتصر لقضايا حقيقية، وينطلق من حقائق مسختها إيديولوجيا الغزاة العرب بالتزوير أو بالانتحال أو بطرق أخرى، هذا بالإضافة إلى أني ليس لدي أي انتماء سياسي، وإن كنت أرى أن من واجب المثقف الحقيقي أن ينخرط في النضال السياسي حتى لا يترك مجال تدبير الشأن العام للارتجال الذي تتحكم فيه المصالح المادية الوضيعة للحكام وللفساد الأخلاقي المستشري بينهم من عبث ومكر واحتيال.

ـ س: لقد أحرزت قصائدك وكتاباتك الجريئة على محبة الشعوب المظلومة منها الكورد ولكن هناك من يزداد سخطاً عليك، بماذا تردين على هذا الكلام؟

ـ ج: من يسخط عليَّ هو في الواقع يسخط ويحقد على كل ما هو جميل ونبيل في الإنسان مثل: حب الآخرين، والانتصار للحق وحده، والنفور من كل أنواع القبح والظلم، ويسخط كذلك على كل مواقف الشهامة والشجاعة الأخرى وليس فقط على شخصي وقصائدي وخطابي الشعري والفكري.

عندما يستيقظ هؤلاء من حقدهم المجاني وتتفتح عيونهم على الحقيقة التي لا توجد في الخطاب الرسمي للأنظمة الاستبدادية الحاكمة إذاك سيقولون: "كم ظلمناها! كم أسأنا فهم النوايا الإنسانية والأخلاقية الطيبة لمشروعها الفكري والإبداعي!".

ـ س: لقد أثارت قصائدك زوابع في أوساط المثقفين الأمازيغ والكورد والعرب، وكذلك أخذت صدى إعلامياً واسعاً تجاوز حدود المألوف. كيف وجدت مليكة مزّان تجربتها في المغامرة بالكلمة حين لامست قصائدها بؤرة التوتر والمحظور؟

ـ ج: وجدتها تجربة كان لا بد منها، تجربة ترفض قدر شعوبنا المغلوبة على أمرها، لقد جاءت تجربتي في الوقت المناسب، وهناك من يقول بأنها تجربة مناسبة للمستقبل فقط ومؤسسة له، ولن تجد لها من يرضى عنها في أوساطنا الاجتماعية والسياسية بل والإبداعية إلا في ما ندر. وهذا شرف أن تكون تجربتي تخاطب عقليات لم تولد بعد، وتؤسس لثقافة تنويرية تحررية، ثقافة أجدني أنثر بذورها بفرح وسعادة كبيرين إلى جانب نساء أخريات رائدات لا يتجاوز عددهن أصابع اليد الواحدة من وزن الصديقة السورية وفاء سلطان والفرعونية العظيمة نوال السعداوي.

ـ س: كيف ترى مليكة مزّان الخطاب الثقافي المغربي، وما الذي تريدين من المثقف المغربي تجاه قضية الشعب الأمازيغي، هل من رؤية واضحة وصريحة في هذه القضية؟

ـ ج: لا يختلف المثقف المغربي عامة عن أي مثقف آخر يعيش في ظل أنظمة عربية مستبدة من المحيط الأطلسي حتى الخليج الفارسي:

فهناك المثقف الذي أيقظته المرحلة فانتبه إلى حقائق مغيبة، ثم ثار يكشف عنها النقاب ويبعث فيها الحياة من أجل كرامة شعب لا تكف أبواق الثقافة الرسمية تخدر حواسه، وتغسل دماغه، وتمسخ هويته، وتزور تاريخه.

وهناك المثقف المستلَب الذي لا يختلف عن عامة الناس المدجنين في التطبيل لخطاب المراوغة والتمويه خوفاً من التغيير الذي سيقلب الموازين، أو بالأحرى سيعيد الأمور إلى نصابها ويحق الحق ويزهق الباطل.

المثقف الأول محاصر وأعزل ويكاد يذهب نضاله سدى، والمثقف الثاني ماض في نثر سمومه وأكاذيبه وفي جني الأرباح والأوسمة، لا تهمه في شيء الديموقراطية الحقة ولا العدالة الحقيقية ولا المصالحة المنصِفة ولا مصير الشعب الذي تذهب أحلامه بالعيش الكريم أدراج الرياح.

ـ س: ما الذي يستفزكِ برهة الكتابة؟

ـ ج: عجز القصيدة الصارخة ما بعد القصيدة الألف عن الإطاحة ببعض الرؤوس التي تمادت في هذياناتها وزعاماتها الحمقاء وكأنها أنبياء من خارج التاريخ الفعلي للإنسان.

كل هؤلاء يستفزني عجزنا عن الإطاحة بهم وعن تخليص الشعوب من نرجسيتهم المستفحلة ومن استخفافهم الطويل بحقنا جميعا في أن نكون من نحن ومن نريد، قدْر استخفافهم برغبتنا المشروعة الجميلة في الركض نحو الحياة والنور والحب والمستقبل.

عشرات بل مئات القصائد الصارخة الفاضحة والخطاب الرسمي هو هو، والثقافة الرسمية هي هي في كل مكان موبوء بالعنصرية والهمجية والظلم، والكراسي الوثيرة هي هي، أي تلك المحتلة على الدوام من قبل العقول المهترئة والضمائر الميتة للذين يبيعون كرامة الشعب بدينار واحد للقنطار.

ـ س: وما الذي يُشعركِ بالأمان؟

ـ ج: امنحني أي شيء يشعرني بالأمان وأنا أمنحك، مقابله، دقائق عمري المتبقية!

هناك، يا سيدي، رعب مستفحل متناسل من المعلوم كما من المجهول. وكأننا خلقنا للقلق وللخوف، وكأننا خلقنا للمغامرة بالحياة في أجواء كلها ألغام، ولكن لا علينا ربما في هذا الرعب، وفي البحث عن مقابله الأمان، معنى ما للكفاح وللحياة.

ـ س: كلمة أخيرة تودين قولها في نهاية هذا الحوار؟

ـ ج: مؤخرا فاجأتني إحدى قريباتي بأن جدي صرح لها، قبل وفاته بأيام قليلة، بأننا ننحدر من قبيلة عربية انتهى بها الترحال إلى جبال الأطلس المتوسط لتستقر هناك وتتمزغ أي تصير قبيلة أمازيغية، فاجأتني تلك القريبة بما قاله جدي وقلت مع نفسي:

"إن كانت عائلتي من أصل عربي فهذا يعني أني قضيت سنوات من عمري أدافع عن قضية قوم ليسوا قومي وثقافة ليست ثقافتي، فهل أغير الآن موقفي وخطابي كي أتنكر للشعب الأمازيغي ولقضيته العادلة وأنضم إلى صفوف المثقفين العرب لأدافع عن قضايا العروبة المفتعلة؟!" .

وكان الجواب: " كلا، بل سأواصل التزامي بالدفاع عن الشعب الأمازيغي وحقوقه مهما "اكتشفت" من "حقيقة" أصلي "العربي". نعم سأدافع عنه لأنه الشعب الأصلي الذي سكن شمال إفريقيا ثم صارت له هوية ممسوخة، وحقوق مهضومة، وكرامة مجروحة، وأرض مسلوبة، ووو... وهذا يكفي لأقف إلى جانبه ما تبقى من العمر".

أعتقد أن المثقف الحقيقي هو ذاك المنخرط في واقع الحياة والإنسان بمواقفه الأخلاقية الشجاعة، تلك المواقف التي لا يمليها عليه سوى ضميره الحي وفكره النير، مواقف إيجابية حضارية إزاء أخيه الإنسان، مواقف الاعتراف والاحترام، مواقف الحب والدعم والسلام.

ننتظر ـ نحن الشعوب الأصلية ـ مواقف كهذه من جميع المثقفين المحسوبين على الثقافة العربية. فكما هناك ما يسمى بـ "التجمع العربي لنصرة القضية الكوردية" أتمنى أن تظهر إلى الوجود تجمعات عربية أخرى لنصرة قضية شعبنا الأمازيغي، بل ونصرة كل من شاء له قدره الأحمق وتاريخه المر أن يقع فريسة سهلة في فخ العرب والمسلمين.

ــــــــ

*مقدمة الحوار من وضع الإعلامي السوري الكوردي حسين أحمد.