الاثنين، سبتمبر 08، 2014

مليكة مزان : السباحة ضد التيار كفاح جميل ليس في استطاعة أي كان


(حوار أجراه سالار تاواكوزي إعلامي كوردي وأستاذ جامعي متخصص في الأدب المقارن)

نص الحوار:

ـ س: شاعرتنا الجريئة، منذ متى اطلعت على القضية الكوردية؟

ـ ج: منذ أن علمتُ من الإعلام الغربي خلال إقامتي في سويسرا (1992ـ2001) أن الكورد يعانون القهر والاضطهاد ومن حملات الإبادة الجماعية في عدد من بلدان الشرق الأوسط، بالإضافة إلى ملاحظتي لوجود بعض المشارقة في نفس العمارة التي كنت أسكنها والذين علمت فيما بعد أنهم لاجئون كورد.

تلا ذلك كله سماعي بخبر اعتقال زعيم حزب العمال الكوردستاني السيد عبد الله أوجلان في كينيا وتسليمه لتركيا بعد سلسلة من رحلات تهريبه ما بين عدة دول غربية بحثاً عن أي لجوء سياسي يضمن له السلامة والأمان.

ذلك التهريب الذي كان رحلة مؤلمة بقدر ما كان مؤلماً مشهد عبد الله أوجلان في وسائل ذلك الإعلام وهو يسلم لقبضة الأتراك مما تسبب في موجة كبيرة من الاحتجاجات سواء من جانب الشعب الكوردي أو من جانب المتعاطفين مع هذا الشعب من شتى أنحاء الأرض، أولئك المتعاطفين الذين رفعوا صوت استنكارهم لتلك المؤامرة الدولية الخسيسة التي وقفت خلف خطفه ثم تسليمه.

ـ س: ما الذي دفعك إلى متابعة القضية الكوردية وإبداء تأييدك لها؟

ـ ج: وهل هناك من دافع أقوى لتأييد للقضية الكوردية غيرُ ضميري الإنساني الحي، وإحساسي بضرورة أدائي لواجبي كمثقفة ملتزمة نحو كل القضايا العادلة للإنسان عامة وللشعوب الأصلية بشكل خاص والتي يعد شعبي الأمازيغي واحداً منها؟

بسبب ضميري هذا اليقظ الحي سأظل، يا سيدي، أستنكر كل أشكال القبح، وأؤيد القضية الكوردية والقضية الأمازيغية (وغيرهما من القضايا العادلة الشبيهة) حتى ولو كفر بهما العالم كله.

ـ س: ما هي القواسم المشتركة بين القضية الكوردية والقضية الأمازيغية؟

ـ ج: كلاهما قضية عادلة لشعب عريق صامد، شعب صاحب أرض وتاريخ وثقافة وهوية، وصاحب حق، شعب كان وما يزال يخضع للاضطهاد العربي والإسلامي على حد سواء، وتمارس في حقه كل أشكال الإبادة العرقية والثقافية.

ـ س: أنت اخترت السباحة ضد التيار في المجتمع، وفي ذلك واجهت انتقادات لاذعة، لم اخترت هذا القدر، ألم تتعبي؟

ـ ج: السباحة ضد التيار كفاح جميل ليس في استطاعة أي كان، ومادام كذلك فلن يكون كفاحاً متعباً بل كفاحاً شهياً ومغرياً، فما دمت أسبح سباحتي هذه وأدرك تماماً أن التيار مخطئ في اتجاهه، وأني بتضافر جهودي في السباحة سأساهم في تصحيح مسار كل تيار شبيه لعين، فأنا على يقين من أني سأحصل على مجد كبير في الذاكرة الجماعية للإنسانية وعلى صفحات التاريخ الذي لا يبخس للناس كفاحها الجميل، ولا يخون. 

 ـ س: لِم تلجأ ميلكة مزان إلى السخرية والاستفزاز آليتين تعبيريتين؟

ـ ج: ألجأ إليهما لأنهما وحدهما الكفيلتان، في نظري، بتحريك الساكن وإزالة الأوساخ وفرض العقل والنظام وتحقيق كل تغيير جميل. ألجأ إليهما بعد أن أكون قد جربت الوسائل الأخرى وخلصت إلى عدم جدواها في التعامل مع مجتمعاتنا الكسولة.

إنهما وسيلتان تدفعان الجميع إلى الاستنكار حقاً في البدء (كأول ردة فعل قوية غير عقلانية)، لكن مع الوقت يهدأ الجميع ليتجاوز مرحلة الانفعال إلى مرحلة التفكير العقلاني الجاد الذي يصحح للجميع قناعاته الفكرية والعقائدية والسياسية السابقة، بل ويدفعه إلى التراجع عما يكون قد فكر في اتخاذه من مواقف همجية باهظة التبعات والتكاليف. 

ـ س: التهمة ولاسيما التهمة الأخلاقية والدينية أهم الأسلحة التي توجهها مجتمعاتنا إلى ناشطات المجتمع المدني في الدول العربية، وأنت اتهمت أكثر من مرة بالعهارة والإلحاد، كيف كانت ردودك على هذه التهم، وهل أوقفتك في يوم من الأيام؟

ـ ج: تلك الاتهامات أعتبرها شخصياً أوسمة حقيقية في انتظار تلك الأوسمة العادية التي قد تأتي أو لا تأتي، بل لن يصدقني أحد إن قلت هنا بأني كثيراً ما أضحك من كل الاتهامات ومن كل الشتائم، بل أحس بفضلها بنشوة الانتصار على مجتمعات حمقاء كهذه المجتمعات التي ابتلينا بها.

ـ س: أعلنت مؤخراً أنك مستعدة لممارسة جهاد النكاح المضاد مع البيشمركة، وقد جرَّ هذا الكلام ردود أفعال متناقضة، ما الذي أزعجك منها، وما الذي أسرَّك؟

ـ ج: في الحقيقة لم يزعجني شيء، فقط اكتشفت ببرودة دم أن الناس في مجتمعاتنا، ذكوراً وإناثاً، قد أسرعوا إلى تأويل ذلك الاستعداد لممارسة جهاد النكاح المضاد مع أفراد الجيش الكوردي المحترم على أنه استعداد جسدي ميداني حقيقي، كما اكتشفت أنهم، بإسراعهم الرديء ذاك، إنما يفضحون حقيقة كونهم عاجزين تماماً عن التعامل مع أي شيء جديد جريء تعاملاً ذكياً، أي تعاملاً بعيداً عن هوسهم بالجنس وعن دوران حياتهم كلها حول هذه الغريزة الحيوانية المسيئة للبشرية في نزوعها نحو كل سمو روحي منشود.

وأما ما أسرني أو أسعدني فهو ذلك التلقي الذكي الجميل الذي ميز موقف الجيش الكوردي من إعلاني الجريء، ذاك الموقف الذي أثبت معه هذا الجيش الوقور كم هو نبيل وصاحب مبادئ وخلق عظيم، إذ لم يحصل أبداً أن اتصل أحد جنوده من أجل الاستفادة من هكذا خدمات جنسية أعلنت عن "استعدادي" لتقديمها، وإن كان بعضهم قد اتصل فذلك فقط ليعبروا لي وبلغة راقية جداً عن مدى امتنانهم وتقديرهم لمغزى إعلاني ولرمزيته الإنسانية.  

ـ س: كيف كانت ردود فعل الشعب الكوردي على نحو عام؟

ـ ج: كانت أغلب الردود متفهمة جداً وكلها شكر وتقدير، لكن سمعت أن بعض النساء الكورديات أزعجهن إعلاني، وأنا أنتهز فرصة هذا الحوار لأعبر لهن عن اعتذاري إن كان في ذلك الإعلان ما قد أساء لهن أو لشعبهن، راجية منهن جميعاً أن يفقهن قولي، ولا يأخذن بعين الاعتبار سوى تلك النية الطيبة لإعلاني، وهي تضامني الرمزي مع شعبهن الجميل وهو يقاوم جحافل التردي الديني والأخلاقي والسياسي.

ـ س: يقال أن نهاية الإسلام السياسي في هذا العصر باتت قريبة بسبب أحداث ما يسمى بالربيع العربي وما تلاها، لأن أوراق الإسلام السياسي انكشفت للعالم، ماذا تقولين أنت بهذا الصدد؟

ـ ج: لأن الإسلام السياسي لا يفعل شيئاً سوى أنه يقتات على إيديولوجيا العقل العربي، تلك الإيديولوجيا التي اكتشف العالم مؤخراً نزوعها الإقصائي وطابعها الدموي، سأقول بأن نهاية الإسلام بشكل عام هي ما قد تكون قريبة، ففي الوقت الذي يعتقد فيه الجهاديون الإسلاميون أنهم بممارستهم العنيفة تلك إنما ينصرون الله ودين الله، نلاحظ أنهم لا يفعلون شيئاً سوى مضاعفة عدد الكارهين للإسلام نفسه، هؤلاء الكارهون الذين صاروا يعتقدون (أكثر من أي وقت مضى) أن هكذا إسلام لا يمكن أن يكون غير منتوج ثقافي بشري رديء، ولا يمكن أن تكون له أية علاقة بأية سماء رحيمة، والدليل هو هذا الاستنكار العالمي لما يحدث من مآس ليس في الشرق الأوسط فقط بل وفي كل أنحاء العالم بما فيها استنكارات الضمائر الحية في ما يسمى بالعالم الإسلامي نفسه. 

ـ س: أنت علمانية راديكالية وناشطة مدنية، وجهاد النكاح (سواء أكان مضاداً أم لا) هو على النقيض مما يدعو إليه العلمانيون الراديكاليون والناشطات المدنيات، وقد اتهمتك بعض الناشطات بأن جهاد النكاح المضاد الذي أعلنتِ عنه إهانة لكرامة المرأة والبيشمركة على حد سواء.

ـ ج: أعتقد أن على هؤلاء النشطاء جميعاً أن يكونوا أذكى مما هم عليه حتى يفهموا من قصدي غير ما فهمه الناس البسطاء، وإلا ما الفرق بينهم وبين هؤلاء الناس أصلاً إذا ما هم آخذوني على تصريح تعاملوا مع ظاهره، وتجاهلوا عمقه ورمزيته ومجازه، بل تعاملوا معه من منظور أخلاقي صرف، أي خارج السياق التاريخي الصارخ والمؤسف الذي جاء ضمنه؟

هذا وقد حاولت سابقاً أن أتفهم مشاعر الجميع، بل وبادرت إلى الاعتذار خصوصاً للجيش الكوردي عن أية إساءة لم أتعمدها، وربما سيشفع لي هنا تعاطفي مع الشعب الكوردي، ذاك التعاطف الذي ليس وليد هذه الظروف الحالية المؤسفة، بل والذي كان بعيداً عن أي إيمان حقيقي بجهاد النكاح أو أية دعوة إليه.

ـ س: شخصياً عندما سمعت كلامك ذهبت إلى أن ذلك تعبير رمزي أو مجازي، وتأييد معنوي للبيشمركة والكورد عامة، وقدمت إليك شكري، لأني فهمت من فحوى كلامك أن الهدف من نكاح مليكة مزان ليس هو الممارسة الفعلية لجهاد نكاح مضاد، فهل تؤيدين هذا الرأي؟

ـ ج: إن لم أؤيد هذا الرأي أو هذا الفهم الجميل لإعلاني فهل من فرق سيكون بعد ذلك بين ما يدعو له الداعشيون الجدد وبين ما أدعو إليه شخصياً كمثقفة إنسانية وناشطة حقوقية مدافعة عن كرامة الجميع ، وبشكل خاص عن كرامة المرأة جسداً وروحاً، عقلاً وقلباً وإرادة، ضداً على كل التعاملات والتوظيفات الهمجية؟

أعتقد أن شاعرة مثلي تغار على كرامة الجسد، سواء كان جسد امرأة أو طفلة أو كان وطناً وأرضاَ، شاعرة تشترط في أية ممارسة جنسية أن تتم في حضور كامل لمشاعر الحب القوية وللإرادة الحرة وللاقتناع الشخصي، أعتقد أن هذه الشاعرة لا يمكن لها أن تدعو نساء الكورد والأمازيغ إلى أن يقفن في طابور طويل في إطار ما يسمى بـ "جهاد النكاح المضاد"، جهاد مهما كانت الأهداف النبيلة التي يبشر بها أو يدافع عنها سيبقى في النهاية عملية جنسية رديئة أقرب إلى العهارة أو الاغتصاب منها إلى أي جهاد نبيل يستحق اسمه.

ـ س: لِمَ لمْ تعلني جهاد النكاح مع المناضلين الأمازيغ من أبناء جلدتك في يوم ما؟

ـ ج: السبب هو أن الجهاديين في ذلك الوقت لم يكونوا قد نادوا به بعدُ، أو أحلوه، بل وفرضوه فرضاً لإشباع غرائزهم الحيوانية ليس إلا.

ثم إني حين دعوت إلى جهاد النكاح المضاد لم يكن ذلك بسبب إيمان به حقيقي مثلما يؤمن به الجهاديون، بل فقط توظيفاً مني لهذا المفهوم الهمجي ضداً على منطق هؤلاء وذوقهم، وكأن لسان حالي يقول لهم:

"إن كانت هناك نساء مسلمات مستلَبات يقبلن بوضع أجسادهن تحت تصرفكم في انحطاطكم العقائدي وترديكم الأخلاقي، فهناك نساء أخريات واعيات وحرات "مستعدات" لوضع أجسادهن تحت تصرف رجال هم أقوم منكم صراطاً، وأنبل منكم خلقاً وأهدافاً، وأطهر منكم روحاً، وأنقى منكم سمعة وضميراً!".

وإن كنتَ تريد الإشارة إلى ما اعترفتُ به شخصياً من ممارسة لجهاد النكاح نصرة للقضية الأمازيغية فسأقول موضحة بأن ذلك الاعتراف كان رسالة مني غير مباشرة لأشخاص معينين لدي حسابات قديمة معهم وأردت بذلك التصريح تصفيتها.

كما سأقول بأن ما اعترفت به كنت أقصد به علاقة حب ربطتني بأحد المناضلين الأمازيغ، علاقة حب عشتها بكامل جنوني وكامل التزامي.

وأعتقد أني، مثل أية سيدة أمازيغية حرة، من حقي أن أعشق وأحب رجلاً من قومي ومن ثقافتي بعد أن خان الملح والعشرة من كان زوجاً لي، ومواطناً مغربياً من أصل عربي وصاحب ثقافة إسلامية لم تمنعه يوماً من اضطهاده لي، ثم خيانته وتلاعبه بثقتي، بل ومن محاولته تشريدي.

ـ س: اللغة الأمازيغية هي همك الدائم، ماذا حدث لهذه اللغة في تاريخها؟

ـ ج: لو كان ما حدث لهذه اللغة هو فقط ذاك التهميش من طرف حكام عرب وإسلاميين لهان الأمر، ولكنها لغة تخضع يومياً لكثير من التحقير والسخرية سواء من طرف بعض أفراد شعبنا الفاقدين لوعيهم تماماً، أو من طرف أشباه المثقفين والحقوقيين من الجالية العربية المقيمة على أراضينا، أو من طرف رجال السياسة والقانون، بل ومن طرف رجال الدين أنفسهم. هذا التحقير وتلك السخرية (سواء في الإعلام أو تحت قبة البرلمان أو حتى في القصر الملكي ومحيطه) هما ما يفسر شراسة نضالي وصرامة مواقفي وراديكالية توجهي.

ـ س: لمَ لا تكتبين بلغتك الأمازيغية، وتكتبين بالعربية؟

ـ ج: لو كنت أكتب باللغة الأمازيغية هل كنتم في كوردستان ستسمعون بوجود شاعرة أمازيغية مناضلة تنتصر لقضيتكم العادلة؟

اللغة العربية بقدر ما أبادتنا جميعاً وجعلت منا شعوباً "عربية" أو كادت، بقدر ما أفادتنا في التعريف بقضايانا، وها نحن الآن ننتقم منها ولا نستعملها سوى لرفض كل إبادة عربية إسلامية لشعبينا ولثقافتينا، وكذا للتواصل في ما بيننا وبين باقي الشعوب الأصلية الناطقة بالعربية والمحتلة أراضيها احتلالاً عربياً إسلامياً سافراً ومقيتاَ في كل من العراق مثلاً، وسوريا ومصر والسودان.  

ـ س: ألا تعتقدين أن كتابتك بالعربية تطمس هويتك الثقافية وتجعل أدبك عربي الهوية؟

ـ ج: الكتابة بالعربية فعلاً تكاد تطمس الهوية الثقافية الأمازيغية لما أكتب، فكثير من المثقفين العرب يعجبهم أن يحسبوني على الثقافة العربية، شأنهم في ذلك شأن كل من يعتبر مثلاً ابن خلدون وابن رشد ومحمد شكري الأمازيغيين من علماء أو فلاسفة أو أدباء العرب.

بل فيهم من يصر على إلصاق الهوية العربية بشخصي وبكتاباتي (تماماً كما سبق له إلصاقها بأرضي وشعبي). يفعل ذلك رغم أني أعبر له عن رفضي، ومن هؤلاء إعلامي فلسطيني وقح، مما زاد من نفوري من الفلسطينيين الذين، في الوقت الذي يحتجون على ما يسمونه "إبادة إسرائيلية" لهم، لا يخجلون من مساهمتهم في ما يمارسه إخوتهم العرب والمسلمون من إبادة فظيعة في حق الآخرين.

ويبقى أن انتمائي الأدبي والفكري الحقيقي هو انتمائي للفكر والأدب الإنساني المقاوم، وهذا يكفيني هويةً جميلةً وانتماءً كونياً مشرفاً.

ـ س: دفاعك الجرئ والمتواصل عن الأمازيغ وموقفك المعادي للقومية العربية جعلا البعض يتهمونك بالشوفينية، وهناك بعض أخوتنا الكورد في إقليم كوردستان يُتهمون بالشوفينية مثلك، لأنهم يكرهون النازحين والمقيمين العرب في الإقليم، هل يجوز للكورديّ والأمازيغي أن يكون شوفينياً ضد العرب؟

ـ ج: جواباً على هكذا سؤال، أرجوك دعني فقط أتساءل هنا وبكل ما أستطيع من غضب ومرارة:

لماذا لا يستعمل لفظ الشوفينية إلا حين يتعلق الأمر بموقف كوردي أو أمازيغي أو قبطي، أو نوبي، أو أي موقف قومي أصلي آخر غير عربي يرفض العنصرية العربية الممارَسة على الكيانات العرقية والثقافية المشكلة للمجال البشري للشرق الأوسط ولشمال إفريقيا بما فيها الكيان الإسرائيلي؟

أعتقد أن العرب والإسلاميين بقدر ما مارسوا عنصريتهم علينا وألفوها، ولم يجدوا مقاومة جماهيرية جدية وقوية، بل ومسلحة تقف في وجه طغيانهم بقدر ما يزالون يظنون أن عنصريتهم عدل ورحمة، بل حقهم المشروع المسموح لهم بممارسته من لدن ثقافتهم الإقصائية. 

لقد آن للعرب، ولكل من يدور في فلكهم من مستلَبين وإماء وعبيد، أن يستيقظوا من قبحهم الإيديولوجي وغرورهم العرقي والثقافي على أساس أنهم "خير أمة أخرجت للناس" ليستمعوا إلى صراخ ضحاياهم من كل ثقافة وشعب، وليروا بشاعة ثقافتهم في مرايا الآخرين على أنها ثقافة مجرمين ليس إلا.

بل آن للمجتمع الدولي أن يستجمع شجاعته ويطالب العرب (وكل من يدور في فلكهم من إسلاميين متشددين) بالاعتذار الرسمي لكل الشعوب الأصلية التي اكتسحوا أراضيها وأبادوا وجودها وثقافاتها، أو يكادون.

بل وبالاعتذار أيضاً لكل شعوب العالم التي لحقها الضرر بسبب إيديولوجيتهم الإقصائية اللامتسامحة والتي لا يكفون عن تصديرها إلى كل أنحاء العالم حتى الآن.

ـ س: أنت طلبت من الأمازيغ أن يحذوا حذو الكورد في إثبات وجودهم على الساحة السياسية في الدول التي يعيشون فيها، لِم لم يستطع الأمازيغ إثبات وجودهم؟

ـ ج: حين يستعيد الأمازيغ وعيهم الجماعي كشعب متميز له الحق الكامل في كل حرية وسيادة وكرامة على أرض أجدادهم ساعتها فقط سيستطيعون إثبات وجودهم، أمَا وأنهم (كجماهير عريضة يتكون منها النسيج البشري للشمال الإفريقي) ينقصهم الوعي الحقيقي بسبب خضوع عقولهم لعمليات غسل دماغ جماعية يومية، بل وتفتقر حركاتهم التحررية الخجولة للإيمان القوي بقضيتهم، ولوحدة الصف والموقف والكلمة، فإنهم بسبب كل ذلك مازال أمامهم الكثير من اليقظة والحذر والتحدي، بل الجميل الصارم من المقاومة حتى يفرضوا إرادتهم السياسية ووجودهم العرقي والثقافي.

ـ س: أنت من مؤيدي الشعب الكوردي، وتابعت الحركة التحررية الكوردية، ماهي الثغرات التي وجدتِها في تاريخ الكورد المعاصر؟

ـ ج: لعل الثغرة التي ميزت جدار الصمود الكوردي وهددته كثيراً بالتفكك والانهيار هو ذلك الصراع الكوردي الكوردي سواء حول ما يجب التسلح به من فكر عقائدي وسياسي لنيل التحرر الحقيقي، أو حول ما يجب اتخاذه (على المستوى الإقليمي والدولي) من مواقف ذكية إزاء مختلف المتعاملين مع القضية الكوردية سواء كانوا من الأعداء أو من الأصدقاء.  أتمنى أن يتصف الكورد بما ينبغي من ذكاء لتجاوز كل خلافاتهم الداخلية في اتجاه بناء دولة مستقلة قوية تضمن لهم أخيراً ما حرموا منه من كرامة وأمن ورخاء على مدى عقود طويلة.

ـ س: ماذا تعني هذه الكلمات في معجم ميلكة مزان باختصار: الأمة العربية؟ داعش؟ البيشمركة؟ إسرائيل؟

أجوبة:

ـــ الأمة العربية: مصطلح عرقي وسياسي وإيديولوجي، يجوز تداوله فقط داخل حدود شبه الجزيرة العربية أو ربما أضيق وأقل من تلك الحدود. وكل استعمال لهكذا مصطلح خارج تلك الحدود يجعل منه مصطلحا استيطانيا واعتداءاً سافراً على ما يوجد خارجها من شعوب ودول. إنه مصطلح كل ما يجب نحوه الآن هو التصدي له بوضع أي حد جميل لانتشاره على أساس أن العالم كله الآن يهدده التعريب بعد أن مضت الأسلمة تهدده كنتيجة مرتقبة بعد موجات التكفير الحالية.

ـــ  داعش: انبعاث مؤسف للهمجية القديمة بعد أن اطمأن العالم إلى أنه أخذ يسير بخطى حثيثة في اتجاه طي صفحة أخرى من صفحات التاريخ الهمجي العام للإنسانية.

ولأني متفائلة جداً سأقول بأن داعش وغيرها من الحركات الظلامية كابوس مرعب حقاً، كابوس قُدر على الإنسانية أن تراه الآن في نومها كما في يقظتها، ولكن بفضل الإرادة والعزيمة الدوليتين ستستفيق البشرية من هذا الكابوس، وبأقل من كل هذه الخسارات الفظيعة والتكاليف المحزنة.

ـــ البيشمركة: جيش أتمنى لو أن كل الشعوب المضطهدة كانت تتوفر على جيش في نفس خلقه الكريم، ونفس إيمانه القوي بضرورة التصدي لكل اعتداء غاشم على حياة وممتلكات وحريات وأعراض الآخرين.

ـــ إسرائيل: كيان شرعي في المنطقة استطاع أن يفرض نفسه بفضل قدرته على التصدي لكل الخطابات السياسية والإيديولوجية المناهضة لحقه في الوجود. نتمنى من باقي الشعوب الأصلية في المنطقة أن تكون إسرائيل لها (كما هي كوردستان) بمثابة تلك القدوة الرائعة في الصمود والتحدي. 

ـ س: أنت مناضلة أمازيغية نشيطة ، ولكن أغلبية الشعب الأمازيغي الذي تناضلين من أجله، وكذلك أغلبية الشعب العربي الذي تكتبين بلغته يخاصمونك، بينما أغلبية الشعب الكوردي ممن تعرفوا على اسمك وسمعوا تصريحاتك المؤيدة للكورد يحبونك، ماذا تقولين عن هذه المفارقة؟

ـ ج: هي مفارقة كانت منتظرة، كما أنها نتيجة طبيعية لكوني لن أستطيع إلا بصعوبة بالغة إرضاء الجميع، وهذا ليس نقصاً أو عيباً في خطابي النضالي، بل نقصاً لدى هؤلاء جميعاً، فهم ليسوا على نفس الموجة من اليقظة والرفض، ولا على نفس المستوى من الشجاعة والنزاهة والتحدي حتى يقووا على ما قويت عليه شخصياً من الانتصار الشجاع والجميل للمفاهيم الحقيقية لكل عدالة وحب وسلم. 

ـ س: كيف تصفين العلاقات الكوردية الأمازيغية، وماذا تتمنين لمستقبل تلك العلاقات؟

ـ ج: كان على العلاقات الكوردية الأمازيغية، ومنذ زمن بعيد، أن تكون أقوى على أساس أن الحركات التحررية في كل من كوردستان وتامازغا حركات مصيرية ومشروعة، بل وملهمة لحركات شبيهة قادمة لا شك. لكن الذي حدث هو ضياع كثير من الوقت بعيداً عن تحقيق أية أهداف لها. كما كان على هذه العلاقات أن تتجاوز مستوى التعاطف الافتراضي لتكون علاقات على أكثر من صعيد سياسي وثقافي واقتصادي.

ـ س: لنعد إلى الأدب، اشتهرتِ بالشعر، ولكنك تكتبين الرواية أيضاً، لمَ يميل الشعراء في أيامنا إلى ممارسة أعمال إبداعية أخرى غير الشعر، بل منهم من يمارسون العمل الإعلامي والنضال السياسي والمدني، أهذا يعني تقليصاً لدور الشعر؟

ـ ج: بل هو فقط عزوف الناس عن التفاعل مع الشعر وكأنهم فقدوا القدرة على الحب والحلم، أو صاروا فقط واقعيين وعمليين أكثر، والشاعر بدوره حين يرى الأولويات الجديدة للناس في مجتمعه ينتهي به الأمر إلى أن ينتقل إلى كتابة أخرى غير كتابة الشعر، يريد بذلك تجنب كل خسارة مادية تلحق به حين يغامر وينشر له ديوان شعر.

كما قد يميل الشاعر إلى العمل الإعلامي والسياسي والمدني ميلا يسعى من ورائه إلى تحقيق مكاسب مباشرة قد لا تكون مادية صرفة، ولكنها على الأقل مكاسب مضمونة له وللمجتمع.

شخصياً عشت ذلك كله:

مرة حين لم أكسب من دواويني الشعرية الستة أي ربح يذكر غير الربح الرمزي طبعاً وهو الأهم، لكنه ربح لم يمنعني من ألا أعلن توبتي عن إصدار أي ديوان شعر إضافي.

ومرة حين فاجأتني إحدى نساء قريتي المهمشة بسخريتها مني قائلة:

ـ "سيدتي، هل تستطيعين شيئاً آخر من أجلنا، أم أنك لا تجيدين سوى كتابة الشعر؟"

كل ذلك كان دافعاً قوياً لأن أحس بالخجل من كوني "مجرد" شاعرة، ولأن أسرع إلى الانخراط في العمل الجمعوي لخدمة ساكنة القرية، ثم لأن أنتقل بعد ذلك إلى كتابة الرواية.

غير أن الشعر سيبقى ذلك الحائط الضروري الذي لا بد من أن نبكي عنده في حدائقنا السرية لنخرج بعدها إلى حياتنا الاجتماعية ونضالنا اليومي من أجل الخبز والكرامة ونحن أقوى من كل الهزائم التي نكون قد تجرعناها. 

ـ س: هل لديك اطلاع على الأدب الكوردي، ومن هم الأدباء الكورد الذين أعجبتك إنتاجاتهم الإبداعية؟

ـ ج: اطلاعي على الأدب الكوردي يقتصر على ذاك الأدب الكوردي الناطق بالعربية، وقد اكتشفت أنه أدب إنساني رفيع ينصب على وصف معاناة الشعب الكوردي مع أنظمة الاستبداد في المنطقة، كما يمجد تعلق هذا الشعب الجميل بأرضه وثقافته حد الموت والشهادة. أذكر من رواد هذا الأدب الرفيع في بداية اطلاعي عليه كلا من هوشنك أوسي، ومحمود عبدو عبدو، ومصطفى إسماعيل. 

ـ س: أنت شاركت في فعاليات أدبية كثيرة داخل المغرب وخارجها، وفي سنة 2008، على ما أعتقد، أبديتِ استعدادك للمجئ الى إقليم كوردستان للمشاركة في فعالية ثقافية إذا ما وجهت إليك دعوة ، هل وجهت تلك الدعوة منذ ذلك التاريخ؟

ـ ج: للأسف منذ ذلك التاريخ حدثت أشياء كثيرة مؤلمة سواء للشعب الكوردي أو لشخصي المتواضع، أشياء جعلت تبادل الدعوات في ما بيني وبين هذا الشعب لا يتم.

لكن في الفترة الأخيرة تلقيت أكثر من دعوة واحدة من شخصيات مرموقة وجهات كوردية مختلفة، غير أن الظروف الأمنية المرتبطة بحالة الحرب القذرة التي فرضت على الشعب الكوردي حالت دون الاستجابة إلى أية دعوة ودون تفعيل أي رغبة في لقاء ميداني فعلي، سواء مع جمهور الشعب الكوردي، أو مع مثقفيه، أو مع مسؤولييه السياسيين، أو مع أفراد جيشه المقاوم بنسائه الشجاعات ورجاله الرائعين.